رواية مصائر لربعي المدهون.. ثرثرة مملة لكن لا تطبيع ولا ما يحزنون

الدكتور خضر محجز | غزة – فلسطين

الشخصيات:

1ـ وليد دهمان: فلسطيني مغترب شهدناه في رواية (السيدة من تل أبيب) زوج جولي، يقدمه الراوي لنا ــ من خلال وعي ليا ــ باعتباره شخصاً “زرع فلسطين في خلاياه، وجعلها أحواض نعناع”(ص27). يبدو لنا المؤلف هنا غير موفق، فجدير بهذا الوصف أن يكون خارجاً من وعي وليد ذاته، أو حتى زوجته، لا من وعي يهودية لم تتعرف بالفلسطينيين (الآخر) بعد. هل لنا أن نستنتج أن المؤلف يزكي نفسه، بطريقة مباشرة، لا يحتملها وعي القص الحديث؟ يبدو ذلك. لقد أرهقت الأيديولوجيا العرض هنا، وإني لأرى فيه رداً مسبقاً، لاتهام فلسطيني متوقع، يشبه ما سبق أن وجه إليه، بسبب روايته الأولى السيدة من تل أبيب.

2ـ جولي زوجة وليد دهمان: نصف فلسطينية نصف إنجليزية (تنحدر من أب انجليزي وأم فلسطينية أرمنية)، تموت أمها في الغربة، وتطلب من ابنتها أن تضع رماد جثتها في بيتها القديم في عكا. فتحضر بصحبة زوجها لهذا الغرض.

3ـ فاطمة النصراوي الملقبة بفاطمة معارف: فلسطينية من عكا، تقدم للسياح الأجانب معلومات صحيحة مجاناً، عوضاً عن معلومات كاذبة، يمنحها لهم مرشدون يهود بالمال: “بنعطيهم معلومات صحيحة ابّلاش أحسن ما يشتروا الكذب من اليهود ابمصاري”(ص15 ــ 16). يبدو جلياً أن المؤلف الضمني يقدمها لنا هنا رمزاً لوعي العرب الباقين في عكا وكل المتبقين من الفلسطينيين في الدولة اليهودية.

4ـ إيفانا: أم جولي التي ستتوفى فيما بعد. تعيش وحيدة في بيتها بعد وفاة زوجها الضابط البريطاني السابق في جيش الانتداب.

5ـ ليا بورتمان: صديقة إيفانا، شاعرة يهودية إنجليزية تعيش مع صديقها ــ ذي الخصية الواحدة ــ من أصل أفريقي (كواكو) وتتحدث بطريقة أرستقراطية.

6ـ جميل حمدان: الفلسطيني من حيفا. يساري سابق. صديق وليد وشريكه في العلاقة السابقة بالروسية (لودميلا بافلوفا). متزوج من يهودية.

7ـ لودا: زوجة جميل اليهودية، التي يبدو أنها تحب الفلسطينيين.

مسرح الأحداث:  فلسطين المحتلة ولندن.

زمن الأحداث:

يتراوح بين الماضي والحاضر، حيث نرى عين الراوي تقفز من فلسطين الحالية، إلى لندن في سنوات سابقة، فيستحضر أحداثاً وأشخاصاً من زمن مضى، ليقص حكايتهم، التي تعلل سيرورة الحدث الرئيس.

التذرع بالشكل لا يحول ما لا وجود له إلى موجود. فالشكل لا بد أن يكون شكلاً لشيء ما. هذا ما خطر ببالي بعد محاولة عسيرة لإتمام قراءة رواية (مصائر). ولقد حرصت على قراءتها، لرغبتي الملحة للدفاع عن كاتب تعرض للهجوم بلا مبرر، في مرة سابقة. ولسان حالي يقول: أتراهم يحاولون مرة أخرى حسداً؟

في (مصائر) يبدأ الحدث الرئيس بسفر جولي إلى عكا بصحبة زوجها وليد. كما يبدو أن الراوي يتكلم غالباً من وعي وليد. وفي كل الحالات يبدو وليد ناطقاً باسم المؤلف الضمني.

نحصل من الراوي ــ منذ البداية ــ على أرقام ومعلومات عن الأحداث الرئيسية التي أدت إلى خروج أهل عكا في عام 1948، وعدد البيوت العكاوية القديمة، ما هُدم منها وما بقي حياً سليماً مسكونا من الغرباء، أو ما هو آيل للسقوط (ص17 ــ 18).

يحرص الراوي على الاستعانة بماضي وليد في الاتحاد السوفيتي، متعللاً بوصف صديقه جميل حمدان الذي عرفه بفاطمة معارف، بأنه “صديقه العائد من زمن يساري النكهة”(ص16)، ليذكرنا بأنه كان شيوعياً ذات يوم، تدرب في مدارس الحزب في موسكو. ولا أعرف ما هي أهمية هذا التدخل غير المبرر، اللهم إلا إن كانت الرغبة المعهودة لدى المثقفين بإعلان (تقدميتهم): فلا مجال هنا للقول بأن لوعة حب اشتراكي مشترك، لرفيقة يهودية روسية (لودميلا بافلوفا) لا زالت تلاحق رجلاً في العقد السابع من عمره، ترافقه زوجته.

قال صاحب فندق عكاوي: “هلأ هاجمين علينا اليهود لفرنساوية، ييجو جماعة ورا التانية، الله وكيلك، جيوبهم متلتلة مصاري، بلفّو وبدوّرو ع البيوت جوات السور، يعرضوا على اصحابها أسعار عالية فوق ما تتصورر: البيت اللي بدّو يقع أغلى م اللي بعده واقف على اساساته. في ناس يا أستاز وليد قتلها الفقر، وباعت بيوتها، وفي ناس باعت من كتر مدايقات المتدينين اليهود، اللي احتلوا بيت هون وبيت هناك”(ص40) “ايش بدنا نحكي؟ طب يشتروها العرب اللي متلتلين مصاري! واللا خايفين منا على مصاريهم؟!”(ص41).

والحق أن هذا الخطاب يلخص جزءاً هاماً من مشكلة صراع أهلنا للبقاء في عكا والمدن الفلسطينية الأخرى: فعلى عكس أثرياء اليهود في العالم، الذين يأتون هنا للموت في (أرض الرب) نرى الأثرياء العرب غير مهتمين بالحفاظ على عروبة فلسطين.

ثمة مساحة واسعة لنوستالجيا البوح الذي ينطلق على طول الرواية من وعي الشخصيات، يعيد استحضار الذكريات القديمة، محاولاً مطابقتها على واقع لم يعد واقعاً، يتمثل في زيارة جولي وزوجها لعكا، وزيارتها ــ مع زوجها والزوجين جميل ولودا ــ لما تبقى من مدينة المجدل عسقلان، مسقط رأس وليد الأصلي قبل النكبة.

يتردد البوح بين رغبته في إتمام الحضور، وتوسعته مكاناً لبوح صامت من يمنية يهودية مهاجرة إلى الدولة اليهودية (رومه) تسكن بيت عائلة وليد الذي كان بيت عائلة وليد. حيث نلاحظ مكاناً في السرد للتعاطف مع يهودية عجوز أحضروها إلى هنا، ولا تعرف إن كانت في ذلك قد فعلت ما لا يخالف الضمير. يقول الراوي في وصف رومه: “بدت بدورها غريبة عن نفسها، كأنما اعتادت على تطبيع حياتها في غيابنا. في عينيها الغائرتين خلف نظارتيها السميكتين رعشةُ ضميرٍ طارئة، هائمة بين مجدلها التي لم تكن مجدلها، ويمنها الذي أضاعته. كنا نتقلب على ملامحها، مثل أسئلة حائرة، تريد أن تسألها وتخشى الإجابة”(ص61).

نبرة إنسانية هنا، تتيح للآخر أن يقول روايته، وإن بصورة مبتسرة. ربما كان هذا هو ما أغضب بعض الفلسطينيين، الذين تعودوا على اعتبار العدو غير بشري. يبدو أن الفلسطينيين يريدون من روائي فلسطيني أن يكتب عن الدنيا بطريقة المقاتلين في الجبهة، رافضين ذريعة سبق أن قبلوا بها، حين أوسعوا في ذاكرتهم مكاناً للمتشائل المتعامل مع العدو. لكن يبدو أن الفلسطينيين يكيلون بمكيالين فعلاً.

تتعرض الرواية لنقد سلوكيات طالما تعرض لها المثقفون، من مثل تعامل المجتمع العربي مع مطالب المرأة المعاصرة: “فريال الهزيل بدوية من النقب… لم تجد من يدلعها فدلعت نفسها ونادتها «فوفو»… فوفو ودعت مدينتها رهط ورحلت. أقامت وحدها بلا محرم أو وصي في شقة في تل أبيب. ثلاثة رجال اتفقوا على التخلص منها، الأول شقيقها الأكبر الذي لم يجد عملاً، فألقى بنفسه في صفوف قوات الجيش الإسرائيلي. لم يجد في مشاركته جيش الاحتلال جرائمه، ضد أبناء شعبه وجيرانه عاراً، ووجد العار كله في خروج فريال”(ص84 ــ 85).

لا يبدو المؤلف متعاطفاً مع التطبيع، ولا قابلا بالرواية الصهيونية للحدث، بل إنه يخالف إميل حبيبي في تطبيعه، رغم أنه معجب به أديباً: “وأحب (باقي هناك) إميل حبيبي كثيراً. وعندما نال إميل جائزة الدولة الإسرائيلية للآداب، عام 1992، وتسلمها من رئيس الحكومة آنذاك، إسحق شامير، في احتفال رسمي بهي، فرح باقي هناك وقال: «الرفيق أبو سلام تفوق على أدبائهم… أشهد بالله العظيم… إنه هالزلمة رفع رأسنا لفوق، بس أوطى من العلم الإسرائيلي، اللي مشى تحته وخلاه أعلى من راسه وروسنا كلنا» وبكى، بكى باقي هناك يومذاك في عز الفرح، بكى لإميل حبيبي وعليه”(ص143 ــ 144).

إذا كان الحكي هو صلب الرواية ــ كما أؤمن أنا ــ  فالرواية تتوقف عن الحكي منذ ما قبل الوصول إلى المنتصف، حيث تتحول إلى كتاب يطوف، ليصف ما يراه سائح فلسطيني مغترب، في بلد هي حلم وعيه، مع أنه لا يستطيع السكنى فيها.

ثرثرة طويلة مملة طوال النصف الثاني من الرواية.. ثرثرة لا تنجح كل محاولاتك للصبر عليها، حتى لو كنت ناقدا ترغب في قراءة نص لتعلق عليه. لذا فلا أرى داعياً لكل هذا الزعيق الفلسطيني، من (مثقفين) يحسدون كاتباً على شهرة يرون أنهم أولى بها منه!. فالرواية لا مطعن وطنياً فيها، وإن كانت أدنى مستوى من أن تنال جوائز. إنها بحق نموذج لما تفعله الشائعة الأدبية لدى الجمهور، بكتاب لكاتب كان سبق له أن اشتهر ككاتب. إذ يكفي ــ كما يقول تيري إيجلتون ــ أن ينتج الأديب عملاً واحداً قيماً، ليصبح كل إنتاجه جزءاً منه، مهما تفاوتت قيمته الفنية: فالتراث الأدبي الرسمي يمتص، في كل مرحلة من مراحله، عدداً هائلاً من الأعمال التافهة، ناهيك عن أية معايير أخرى**

ويبدو لي أن شيئاً مثل هذا قد حدث لهذه الرواية، التي نالت شهرتها من رواية ربعي المدهون السابقة (السيدة من تل أبيب).

والحقيقة أنني لا أعرف أي معيار هذا الذي أتاح لها أن تنال جائزة!

…………..

الإحالات:

– ربعي المدهون. مصائر: كونشرتو الهولوكوست والنكبة. مكتبة كل شيء ــ مكتبة الفكر الجديد. دون تاريخ.

– انظر: التفسير والتفكيك والأيديولوجيا ودراسات أخرى. القاهرة. الهيئة المصرية العامة للكتاب. 2000. ص14

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى