تقانة التضاد.. لعبة الشاعر عبدالرزاق الربيعي البلاغية، وفضاؤه الاستعاري

علي حسن الفواز | رئيس تحرير جريدة الصباح – العراق

يسعى الشاعر عبدالرزاق الربيعي في كتابه الشعري “ليل الأرمل” إلى أسلوبية القص الشعري، حيث كتابة المراثي الشخصية، تلك التي تتسع للاستدلال بالذاكرة والسيرة والميثولوجيات الشعبية والدينية، ولاستعادة الغائب عبر طقوس إنشادية، لتتبدى القصائد وكأنها تمثيلات لمشهد بانورامي، تتمسرح فيه حيوات غائبة لشخصيات الأخ والزوجة والصديق، كمعادل تراجيدي لفقدان وجودي لـ”المكان الأليف”، المكان الذي يضيق بالعبارة، ويتسع بالرؤيا كما يقول النفري.

القصيدة الشخصية

يمكن للقصيدة أن تكون شهادة، وأن تحتفي بالحياة مثلما تحتفي بالموت، وأن يمارس الشاعر عبر طقس الشهادة رهانا على كتابتها، بوصفها توصيفا، أو تقصيا لوقائع ويوميات الشاعر الشخصية. وهذا ما انخرط فيه الشاعر عبدالرزاق الربيعي في مجموعته الشعرية الأخيرة “ليل الأرمل”

تبدو لغة القصائد أكثر احتفاء بالرمز، وأكثر تحسسا للمعنى ولدلالة التوظيف الرؤيوي، وهي معادلة “فتغنشتاينية” تقوم على صور تمثيلية، أو أن البنية التصويرية فيها تبدو أكثر إدهاشا في اللعب اللغوي، حيث ينكشف اليومي على سيميائيات مفارقة، تبدأ من فضاء عنونة الكتاب بموحياته الدلالية النفسية والتعبيرية، ولا تنتهي عند الإحالات الطقوسية والصوفية، إذ تبدو “الجملة الإسمية” أكثر تمثيلا للوصف والتصوير، وهي تقانات تقترب فيها الاستعارات من حركة عين الكاميرا، حيث اللقطة، وحيث المشهد، مقابل ما تقترحه “الجملة الفعلية” من حركة هي الأقرب إلى التعبير عن التزيين، وعن الشغف بالتأمل المتعالق مع فعالية الكاميرا.

يقول الشاعر “في راحة ‘الأمير’/ يبسط الطائر جناحيه/ على الرمال/ حيث المشهد الأخير../ الملاك جاهز/ و’كادر’ السماء/ جاهز/ العرش والضياء”. هذا “اللعب اللغوي” الإيهامي، والاستعادي، ينفتح- بالمقابل- على سجال تعبيري يتمثله الاستعاري/ المجازي، والواقعي/ السيري، وعبر شفرات تمثيلية، تحضر فيها “شعرية التضاد” وتخيلاتها الموحية، حيث السماء هي المجال المتعالي للوجود، مقابل الأرض بوصفها الجحيمي، وعبر استعادة صورها في الفقد والموت والحرب والمرض والمهجر.

في الوقت الذي تحيل فيه العنونة إلى المفارقة يكتب الشاعر قصيدته الشخصية بوصفها شهادة، أو بوصفها رؤيا، والتلازم بينهما يتمحور حول الدلالة السيميائية لشعرية الليل. فالليل هنا إشارة إلى الوحدة والفقد، واقترانه بـ”الأرمل” المفجوع هو توسيع لرؤيته في البحث عن معنى آخر للخلاص والحياة، إذ يكتسب هذا الاقتران بعدا يتسم بالحركة، وبالاستغراق الدرامي ذي المسحة الصوفية. هذا إضافة إلى ما تؤديه وظيفة الرائي من مقاربات تحيل إلى الصراع الداخلي، حيث يستعيد الشاعر صور الموتى، عبر نكهة الحياة التي تنبعث منها، أو عبر ما يمسرحه فيها من إشارات هي خاصيته في الشغف الذي يساكنه، أو عبر ما يستعيده من قاموس الذاكرة، أو من طقوس الفقد في ميثولوجياته القصية.

يقول الربيعي “هذا البياض ليس كما ترى،/ وتسمع وتظن،/ وعلى الإطلاق ليس كما تريد وترسم../ هذا البياض مراوغ،/ وكما هو باطل/ صار كل ليلة/ لي ولك/ بلا تردد ولا حياء”.

تقانة التضاد هي لعبة الشاعر البلاغية، وفضاؤه الاستعاري الذي يستدل من خلاله على الإيهام بالاستعادة، إذ تبدو الكتابة وكأنها محاولة لصناعة الأثر، أو الأيقونة بتوصيفها السيميائي، فهي مسكونة بشعرية الجسد، وشعرية الإحالة إلى الحياة، وبما يجعل “ليل الأرمل” يبدو وكأنه ليل استيهامي للحكايات، والطقوس والمراثي والأساطير، فقصائد “المشهد الأخير” و”البيت الأخير” و”ما تبقى من الظلام” و”على حائط يوليوس قيصر” و”غياب الأليف” و”ابتهالات” هي إحالات إلى شفرة الفقد، وإلى التفاصيل الممعنة في الوجع، وإلى حيث تبدو تقانات التصوير والتمثيل محاولات لتوكيد ما هو الأقرب إلى الطقوس المضادة للموت، فعين الكاميرا تسجل اللقطة، وحركة الفعل المضارع تهب اللغة طاقة إيحائية مضافة، حيث تسبغ على الـ”صباح” دلالة تقصي عنه واقعية الغياب، لتضعه عند سيميائية التعويض والحضور المحتشد بالوجود الرمزي. يقول الشاعر “صباح كل يوم/ اعتاد أن يزيح الثلج/ عن نافذة وحدته من على الطابق العاشر/ يلقي نظرة على ما تبقى من ظلام”.

اليوميات والأساطير

حكايات شعرية تجمع اليومي بالأساطير

البناء المقطعي لأغلب قصائد هذا الكتاب الشعري ليس بعيدا عن هندسة التمسرح التي يدركها الشاعر جيدا، وهو ما يتيح له مجالا واسعا لتحريك وحداته ووسائطه التصويرية والمسرحية، وإثراء فضاء القصيدة بما يشبه السينوغرافيا الشعرية، حيث المعنى الغارق بعلامات الحضور، وحيث التفاصيل التي تتلون وتتقمص اليومي والطقوسي والاحتفائي، بما يجعلها أكثر تعبيرا عن أقنعة الأسى الشخصي بوصفه أسى للوجود ولطقوسه السومرية/ الديموزية، وللذاكرة المسكونة بعلامات الغياب والحرب والخوف والفقد، أو بوصفه مجالا ذا طاقة تصويرية/ تقانية يستعين بها الشاعر لإغناء البناء التوصيفي والتركيبي لقصائده.

التحولات في أغلب قصائد “ليل الأرمل” تعبر عن هواجس الشاعر بالتماهي مع الشغف بالبراءة، إذ هي مناخه الأليف المقابل للفقد المعادي، حيث تبدو “الخبرة” وكأنها مختفية، أو متوارية خلف لغة بسيطة، دافقة، غير متورطة بتهويمات ما كان أكثر حضورا في قصائد “الثمانينيين” الذين ينتمي الربيعي إلى جيلهم الصاخب، حيث فخامة النثر في بلاغته التصويرية والتقانية، وحيث الهروب من الوضوح إلى ما هو لغزوي، وتورياتي.

الشاعر هنا يكتب بلا عقد، ويمارس طقوس الكتابة بوصفها كتابة شخصية، كتابة تلامس الوجع والروحي، وربما هي الأقرب إلى ما يشبه الاعتراف، تلك التي تلامس توهجات الحياة عبر قسوة الموت والفقد، بما يجعل الانزياح التأويلي غير واضح المعالم، إزاء حضور ما هو واضح وحميمي، وما هو قريب من اليوميات، ومن الحكايات والأساطير الشخصية، حيث يتحول يوليوس قيصر إلى قناع للضحية، وللصداقة المقتولة، مثلما تتحول الزوجة إلى تمثيل فادح لـ”محنة الشاعر” حيث يستدعي من خلالها تاريخا من الميثولوجيات والخسارات، فإذ يجعله الموت “قيد الغياب” فإنه يسعى لكتابة نشيده التعويضي، حيث تتلبس اللغة أقنعة الحكمة، ويتلبس الشاعر قناع الحكواتي الباحث عبر الأسئلة عن فلسفة الموت، وعن وحشة الإنسان وهو يواجه وحدته وخيبته. ونذكر أن كتاب “ليل الأرمل” صدر ضمن منشورات نزوى ومؤسسة عمان للصحافة والنشر والإعلان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى