رسائلُ طفلٍ خائف

حسن الأسود | سوريا – تركيا

حلوتي ماريا، إنني أكتب إليك و لست أفكر في نسيانك اليوم، و في المقابل لا أنوي أن أشعر بالحنين نحوك أيضاً.
لقد جلستُ في غرفتي و قمتُ بتشغيل أربع مكبرات للصوت، كلها تصدح بموسيقاي الخاصة، لقد قمت بتشغيلها بشكل عشوائي، حيث إذا ما وصلت المكبرة الأولى إلى منتصف الموسيقى ، كانت المكبرة الثانية قد بلغت النهاية، وهكذا دواليك… الغرفة مليئة بالصخب، أربع مكبرات يصدحن بغضب ليشعرنني بمزيد من القلق.
إنني أراقبهن… هنا الموسيقى تهدأ و ينخفض إيقاعها، و إذا من مكان آخر تثور الموسيقى و تغضب، و أنا أرتجف، أعضاء جسدي تغلي و عقلي مشتت ، ويداي ترتجف، إنني متوتر وقلق، و الصداع ينهش رأسي مثل جرادة تقضم ورقة شجر.
و لكنه لا بدّ لي من الكتابة إليك… إذ لا مكان أملكه غير منزلي لأنزوي به، و لا شخص آخر يمكن أن أراسله سواك، فاعذريني لو جعلتك تنشغلين بهذياني هذا، أعتذر لو آلمت عيونك إثر قرائتك لرسائلي الكثيرة، أعتذر لو سببت لك السخط من اصراري في أن أراسلك كل يوم، إنني أعتذر لك و أشعر بالأسف نحوك، إذ لا بد من أنك تجلسين الآن بقرب حبيبك الجديد، يداعب خصلات شعرك وأنت تضحكين له، نفس الضحكة التي كنت تضحكينها لي، إنني أعتذر لأنني أزعجتكم برسائلي، إن حبيبك سيسألك من هذا الذي لا يمل من ابتعاث الأوراق المليئة بالفوضى من أجل أن تقرأيها، لا بد أنه سيسألك، وليس عليك إخباره بأننا عشنا أربع سنوات في حب كنا نعتبره للأبد. و يمكنك اليوم أن تحتضنيه ثم تخبرينه بأنك تحبينه للأبد، و إذا ما سألك و ألح في سؤاله عن مصدر تلك الرسائل، فالتقولي له، إنها رسائل من طفل خائف، أو رجل يختنق بالكلام، أو هي من إنسان مشتت يشعر بالضياع، أو أنها رسائل من مخلوق حكم عليه بالصداع و القلق. إنني قلق جداً حلوتي ماريا، و لكن أرى أن تختصري إذا ما سألك، فأخبريه بأنها رسائل من طفل خائف.
وفي مرات كثيرة لست أدري كم عددها أريد أن أشكرك لأنك تقرأين رسائلي كل يوم، إنك بطيبتك لم تملي إلى اليوم من أن تقرأي تلك الأوراق التي شرعت في إرسالها منذ يوم فراقنا الأول.
رغم أنك لا تجيبين على رسائلي و لكن يكفي أنك تقرأيهم، فأنا ممنون لك على فعلتك الطيبة، و أشعر بالحرج من سخائك،ثم إنني أريد أن أعتذر لك إذ أخطأت في الرسالة رقم مئتين و ثلاثة و تسعون عند السطر الرابع في الكلمة السادسة إذ كتبت لك حبيبتي، و أريد أن أنوه بأنني كنت أقصد بها حلوتي، إذ ليس من اللائق أن أدعوك حبيبتي و أنت تحتضنين رجلا غيري.
ثم إنني أشعر بالفخر من الرسالة رقم ثلاثمئة إذ كتبت لك طرفة خفيفة، لقد تخيلتك تضحكين وقد افتر ثغرك عن ابتسامة رقيقة بعد الضحك و اكتسى وجهك بشاشة أعرفها جيداً ، ثم قلتِ في سرك ياله من مجنون، آه لو تعلمين كم شعرت بالفخر إذ تمكنت من إضحاكك، وفي تلك الليلة وحتى لأسبوع أو أكثر ظللت انتظر جوابك الذي ستكتبين به شكراً لأنك أضحكتني.
لكنك لم تفعلي، فتخيلتك قد انشغلت و نسيت إرسال الورقة رغم أنني واثق من أنك كتبتها و قمت بإخفائها عن حبيبك الذي لا يسمح لك بأن تشفقين على حبيبك القديم، الذي قضيت معه أربع سنوات وأنت ترددين أحبك للأبد .
حلوتي ماريا إنني أشعر بالقلق، و لكن المهم الآن أنك موجودة، تجلسين بأحضان حبيبك وتحصين النجوم، ولكن لا نجوم في سمائي، إنه مساء غائم، وهل تعلمين لِمَ مساء اليوم غائم؟ دعيني أخبرك بالحكاية بتفصيلها.
إذ خرجت اليوم من منزلي و معي التمثال الذي صنعته منذ خمس عشرة سنة، و كل يوم كنت أرممه حتى وصل لأبهى حلة وأجمل صورة، و أنت أكثر الناس معرفة بي، إذ أنني أعاني من الصداع والقلق وخوفي على التمثال. لقد حملته و مشيت به في الشارع ثم التقيت بأشخاص يدّعون معرفتي، وقفت بقربهم، كانوا يتحدثون عن طقس اليوم، كانت الشمس حادة، لقد تنبأوا بليلةٍ ربيعية في جوٍ صحوٍ جميل، لكنني أخبرتهم بأن اليوم سيكون غائم، بل ربما تهطل الأمطار ويقصف الرعد، لكنهم لم يعارضونني، ولم يوافقونني، لأنهم لم يتمكنوا من سماعي. لقد نخزتني كرامتي حينها، دون أن أنزعج منهم، إنني لا ألومهم إذ ليس باستطاعتهم أن يسمعونني، فقمت بالاعتذار منهم و لكنهم أكملوا حديثهم عن سهرة اليوم وسط طقس صحو، وخزتني كرامتي أكثر فاستأذنتهم لكي أرحل، و لكنهم مساكين لم يتمكنوا من سماعي، أحسست بالقهر بلغ مبلغه في صدري، كان الهواء ساعتها يخنقني، وحنجرتي تورمت فسدّت الهواء عن صدري.
و الآن حلوتي ماريا، فالموسيقى لم تزل تصدح وأنا قلق، وخائف، اعتبريني طفل خائف، حتى أنهي رسالتي، لأنني سأقص عليك ما حصل، و إذا ما قرأتي رسالتي ستحزنين لأمري، وتكتبين رسالة لتخبريني ما أصنع حيال الأمر، ثم إنك غالبا ستنسين إرسال الرسالة، ولكن ما دامك قد كتبتها فهذا يكفي، سأفهم أنا نصائحك دون أن تصل حتى، المهم أن تكتبين لي، و الآن دعيني أكمل لك مالذي حصل، لقد حملت التمثال و سرت وحدي في الطريق على ضفة تحتها يابسة و لم يكن هنالك بحر أبداً، و إنني أحمل تمثالي أينما ذهبت، تستطيعين القول أنني أخشى عليه من السرقة، وأظنني محق حيال الأمر، لأنه كلفني أعواماً من النحت، و عندما كنت أسير على الضفة كانت موسيقاي الخاصة تصدح في صدغي و تثور وتموج علوّاً وهبوطاً، أصبحت تستفزني كثيراً، وبتُّ أفكر جدياً بالإقلاع عن التدخين أو الإقلاع عن الموسيقى، المهم أن أجد حلا للقلق.
و كنت في طريقي أقلّب التمثال بين يدي لألا يرتطم بالمارة فينكسر التمثال ويتحطم، و قد كلفني أعواماً من النحت.
و إذا و أنا أمشي مرَّ من أمامي رجل ثم أوقفني و طلب مني إعطائه التمثال، لقد علمته كيف يحمله، ولكنه كان أحمقاً_ وأنت تعلمين حلوتي ماريا كم أكره الحمقى والذين يكذبون باستمرار _، و في النهاية أعطيته التمثال فاليحمله كيفما شاء، وأكملت مسيري و أنا أضحك كيف أنني تخلصت من هذا الحمل الثقيل بثوان فقط.
آه هذه الموسيقى تستمر في استفزازي حلوتي ماريا.
ولكن دعيني أكمل ما أردت قوله، و لننسى بأن في غرفتي أربع مكبرات للصوت يصرخن لاستفزازي، وليجعلنني أشعر بالشتات والقلق.
نعم، بعد لحظات حلوتي ماريا غاب الرجل و اشتقت أنا للتمثال، لأنه تمثالي الخاص، لقد كلفني أعواماً طويلة حتى أوصلته إلى تلك المرحلة، آه كم أشعر بالندم والقلق، و في النهاية عدت أركض في نفس الطريق الذي ذهب به الرجل، حتى استطعت اللحاق به، لقد لمحته على منصة التتويج يحتفي بتحقيق حلمه.
اقتربت منه حاولت أن أخبره ولكن الناس كلهم اتفقوا أن يقصوني جانباً، لم يسمعني أحد يا حلوتي، و أنا أختنق بالكلام، حاولت أن أذكّر الرجل بأن التمثال لي وأنني أعتذر إذ اطالبه باسترداد التمثال، شكرته لأنه حمل عني هذا الوزن الثقيل لدقائق، ولكنه لم يسمعني، توسلت له و رحت أبكي مثل طفل خائف، و لكنه لم يقبل بأي شكل أن يعيده لي، ابتعدت قليلا، و قد سامحت الرجل على فعلته، لكنني كنت غاضبا من التمثال إذ وافق أن يحتمي بين ذراعي ذاك الرجل، و ما جعلني أختنق أكثر، وهو الأمر الأشد غرابة، أنني رأيت التمثال والرجل يليقون ببعضهم، كان الرجل يعرف كيف يحمل التمثال ويتوج به أفضل مني بكثير.
حلوتي ماريا إن يداي ترتعش، و قلبي يضرب في جدار صدري، جسدي يرجف، و غباشة غريبة فوق عيني، إنني لا أرى جيداً، ولكنني كل ما أريد هو أن تتوقف هذه الموسيقى .
حلوتي ماريا إني قلق، غير مطمئن، خائف، هل تسمعينني هل بإمكانك أن تزورينني ولو مرة واحدة، زيارة طبيب لمريض، و سأدفع التكلفة كاملة، حلوتي ماريا لا أظنك تفهمينني، ولكنك بأضعف الإيمان ستتعاطفين معي وتحاولين أن تكتبين لي، حاولي أن تكتبي لي أرجوك، حتى ولو انشغلت فنسيت ارسال الرسالة، يكفي ان أكون موجوداً في ذهنك على الأقل.
يا حلوتي الطيبة إنني اعرف بأنك مسافرة أو… سأعتبر بأنك مسافرة إلى مكان بعيد، وأنك لست في الشقة التي تقابل شقتي، لا لست هنا، هذه ليست أصوات ضحكاتك مع حبيبك، إنها الموسيقى، المكبرات الأربع، الصخب، الضجيج، الفوضى، القلق، الخوف، البرد، الحزن المرير، إن الحزن وحش مخيف.
وبكن هذا الي يخرج من نافذة غرفتك ليس صوتك، إنك مسافرة، صحيح أن تعيشين الآن علاقة حب جديدة، ولكن بعيداً من هنا، لست هنا أبداً، هذا ليس صوتك.
و هنا، أنا من يعتذر إليك، لقد علمت بأمر الشكوى التي تقدمت بها إلى مركز الشرطة، بسبب الموسيقى التي تخرج من غرفتي، لهذا أكتب لك الآن، لا لشيء سوى لأعتذر عن إزعاجك.
فالتتجاهلي كل شيء ذكرته أول الرسالة و لتغفري إذ أخطأت حبيبتي ماريا، في كتابة أي كلمة دون قصد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى