مخيم اليرموك.. وداعا، قبلة ودمعة وباقة ورد

فايز حميدي | كاتب فلسطيني مغترب

حين تكتظ الذاكرة بالراحلين ننسى لنعيش، إنه لأمر مرهف أن تصبح الذاكرة مقبرة، فيها من الأموات أكثر مما فيها من الأحياء، تتذكر أجيالا رحلت من أحبتها، فتقتحم المخيلة القبور والشواهد والصبار والرياحين وصور مسربلة بالحياة من الأحبة كانوا هنا ، والآن قد رحلوا ….
غمرني حزن عميق ….
كانت عودتي الى اليرموك لساعات أشبه بأن تقابل مصادفة صديقا قديما وعزيزا ، فتعرف أن الحياة لم تكن منصفة معه ، إنه بات شريدا ومعدما وقتيلا ..
اليرموك منبع العمل الوطني الفلسطيني، له طهر عجيب، نقي كماء وضوء، قريب من القلب، وطن ثان …إنه المخيم …
بعد أن فاق من نومه ، نهض حالا قبل أن يزول احمرار النوم من عينيه ….قلب المحطات الفضائية، واستقر على محطة بعينها …..جاءه الخبر :
( لقد تم تحرير مخيم اليرموك والحجر الأسود ، والقضاء على الارهابيين )…
صرخ بفرح :
الموت لطيور الظلام .
قفز الى الأعلى ، ولفرط فرحه وحزنه ….بكى . لقد انتهت سبع سنوات عجاف ..
في اليوم التالي ، جاهد للوصول الى المخيم ، كان قلبه يعدو أمامه وهو يقترب من ذلك البيت الذي سرق أجمل أيام عمره ، ليجمع مالا لشراءه ..
هذه ساحة الريجة ، وهذا فرن ابي فؤاد ، وشارع لوبيه ، وجامع الوسيم ، ومكتبة الرشيد …هنا في هذه الزاوية ، كنا نختلف ونتفق في الموضوعات ، والمواقف السياسية مع ابي شادي ، الصديق الحميم ……
يا لهول ما أرى ! دمار في كل مكان ، عمارات مهدمة تحولت إلى تلال من الرمل بفعل البراميل المتفجرة ، والقنابل التي هزت الأرض عميقا ، دكاكين مخلوعة أغلاقها وقد تقعر حديدها الى الداخل ، بسبب (التفريغ ) في ضغط الهواء الذي ولدته الانفجارات المتتالية ، أبنية عديدة مكونة من خمسة أو ستة طوابق قد أنهارت بأكملها ، وبقيت من بعضها لوحات معلقة على بقايا أساس أبنيتها بين أصابع الحديد والاسمنت المجروحة العارية ، شوارع مقفرة ، وبيوت مهجورة لا أثر للحياة فيها …..وأغمضت عيني هولا .
أغمضت عيني ، لأرى أعماقي التي كانت تغلي ثم تهدأ ، لتتبلور فيها أشياء وأشياء ، كنت أحس كأني أتنفس من خرم أبرة ، وكأن جبال الأرض كلها جاثمة على صدري ، لم يكن دماغي قادرا على المواجهة والفهم …
كان كل ما في المخيم ينطق ، يهذي ، يؤنب …وأطرقت رأسي خجلا ….
كانت أثار القنابل قد تركت في جدران كل بيت بصمات إطلاقها ، وهدمت بعضها الآخر بأكمله …
من وقت لآخر تمر سيارات ضخمة ، أو دراجات نارية ، تحمل أثاث البيوت الى خارج المخيم ، شيء ما ضد العقل والمنطق والأخلاق ، لا يمكن تصديقه ….
أبناء المخيم وجوههم شاحبة النظرات ترافقها أو تواكب انحسارها……
صمت حزين متوتر ينفجر من أحجار البيوت والأرصفة ..
صمت يروي ببلاغة مأساة مخيم يعيش لحظاته الأخيرة ، مخيم حمل لواء النضال ضد العدو الصهيوني ، مخيم شكل ذات يوم بذرة الصدق في العمل الفدائي التي نبتت من جذور الأصالة في تربة الهزيمة والعار العربية …
ثقيلا كان ذلك المساء..
عند مفترق الطرق ، على رأس شارع المدارس وتقاطع شارع اليرموك ، مكتب الأستاذ المحامي سمير الزبن ، كان يبدو وكأن زلزالا شديدا قد ضربه .
انتابني ضياع حلزوني ترى ، أي من هذه الطرق أسلك ؟
لقد ضاعت ملامح المكان تماما ، أنا الذي أعرف المخيم ، كما أعرف باطن يدي ….انصلبت على مفترق الطرق ، تلولبني دوامة الضياع …
القيت بنفسي الى الركام ، وتقدمت باتجاه ما كنت أسميه بيتي ، تقودني ذاكرة المكان …
لقد كان حلم حياتي امتلاك بيت ، وها هو الان مدمرأ تماما ، كومة من الركام …
شعرت برغبة في التقيؤ ، تراجعت وجلست على كومة من حطام ، كمن سلب منه عقله ، والقلب ، والروح دفعة واحدة .
كان اليرموك ، دمعة محارب معلقة على ناصية ، تشتاق لعناق الأحبة ، كان نجما متألقا في كل شيء ، بأطبائه ، ومهندسيه ، وفعالياته الاقتصادية ، ومثقفيه ، ورجالاته ، شهرته حملتها الطيور في حناجرها الدافئة ، وباحت بها الى بلدان بعيدة …
انتابني شعور غريب بالرغبة الجامحة ، في مغادرة المكان ، بينما كانت سماء اليرموك مجروحة حتى العظم بدخان التنحيس ..سلخت عاطفتي ورميتها في برميل القمامة .
كانت ذات يوم ، نكبة ، ونكسة …
أما هذه الكارثة فكانت أم النكبات التي أصابتنا في الصميم …
لم يعد هناك ما يستحق الإنتظار ، ولسنا محكومون بالأمل …
سعد الله ونوس مات بورم خبيث في رأسه لأنه لم يكن محكوما بالأمل …
ومحمود درويش رحل وحيدا ، بعيدا ، دون حبيبة بجانبه …
لا شيء يستحق الإنتظار في هذا العالم المتهالك أبدا ، أبدا …
فالأرض باتت عقيمة لا تنتج إلا الأعشاب الحاقدة السامة …
الحقد والغدر والقتل والخيانة والزنزانة والسجان هم جميعا قتلوا الشرف ليحيا العار … ..
يا أحبتي ، أدفنوا يرموككم الحبيب وانهضوا ، نهضنا سابقا ، وسننهض من جديد ، الى الجحيم يا شرقا مسكونا بالتعاسة والمؤامرة والاستبداد …
هاهي هجرة أخرى الى بلاد الله الواسعة ….
في ذلك المساء الحزين ، الحزين ، نامت الشمس بألوانها الذبيحة فوق أبنية المخيم المهدمة ، وأصبح جزيرة سوداء ، بينما كانت يد صديقي الدكتور أمجد السعيد تهدهد على كتفي :
لا تحزن يا صاحبي ….غدا تشرق الشمس ، الدرب طويلة، فمن شعاع الشمس يولد خيط الرجاء ….

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى