دون كيشوت

الدكتور خضر محجز – غزة – فلسطين

تمهيد:

عندما يتحدث الباحثون عن الرواية، فإنهم يطلقون عليها واحداً من المصطلحين الآتيين: (novel) أو(fiction). ورغم كل ما قيل من أن للفن الروائي أصلاً عربياً، إلا أن الحقيقة هي غير ذلك البتة. فلو ذهبنا نتتبع كل فن حديث، بادعاء أننا آباؤه الأولون، إذن لطال بنا المسير، ولتوسعت بنا المسالك، ولخبطنا في بيداء من الادعاء المتنفج، الذي لا دليل عليه سوى حبنا لأنفسنا. ولئن سبق لنا أن قررنا أن الحكاية فن عرفته كل الشعوب القديمة، ومارسته في كهوفها الأولى؛ إلا أننا الآن نتحدث عن فن القص، لا عن المادة الخام. ومن ثم فلا مجال لاختراع الحكايات حول أوليتنا وتخلفهم، لأن مجال هذا هو الخطب الأصلانية، التي تعلي من شأن الذات على حساب الحقيقة. ونحن هنا نتوخى الحقيقة، والحقيقة فحسب.

نشأة الرواية:

الرواية فن حديث ظهر في الغرب، مع ظهور الدول القومية والمدن. بل قل إنه ظهر مع بدايات عصر النهضة، الذي تلا القرون الوسطى في أوروبا. ورغم أن بعض من يبحثون عن بواكير الرواية، يجعلون قصص الفروسية ـ البسيطة التي تشبه الحكايات ـ هي بداية هذا الفن، إلا أننا لا نميل إلى هذا الرأي، ونرى أن بداية فن القص يمكن تأريخه بعام1605، الذي شهد ظهور رواية دون كيشوت (Don Quijote)، لمؤلفها الإسباني ميجيل دي ثرڤانتس (Miguel de Cervantes).

لقد أسست رواية دون كيشوت لفن الرواية في الأدب الحديث ــ بعد عدة أجيال من روايات الفرسان المغامرين، والأميرات الجميلات المخطوفات في انتظار الفارس المنقذ النبيل، والساحرات الشريرات اللاتي يسحرن الجميلات ويحولنهن إلى أغربة أو حيوانات دنئية الخلق… ــ لأنها رفضت الحديث عن شخصيات الفرسان والأبطال العظماء، الذين لم يعودوا موجودين، في زمن استفحلت فيه قيم المادة، وتراجعت فيه قيم المثال.
فنحن نرى في (دون كيشوت ) قصة الرجل العادي، فتستكشف وعيه، وترصد تغيراته، في مواجهته البائسة مع عالم الواقع القاسي. فالشخصية الرئيسية (دون كيشوت) ليست بطلاً أو فارساً أو أميراً، بل شخصية عادية ملتقطة من الواق الأوزروبي في تلك الفترة، شخصية يومية شديدة الواقعية، لكنها حالمة بالبطولة، إنه شخصية الإنسان الذي يعيش في عصر، فيما يعيش وعيه في عصر آخر مضى وانتهت أدواته.

أليس هذا هو حال الحالمين اليوم وفي كل يوم؟.

هكذا انتقلت أوروبا من عصر الفروسية إلى عصر الثورة الصناعية. فرغم أن المثقفين يشعرون بانتمائهم إلى عالم المثال والخير والحب والجمال، إلا أن وعيهم يعاني من اغتراب ممض، ناتج عن كونهم مرغمين على الحياة في مجتمعات لا تعترف بهذه المثل العليا، أو قل إنها لا تجد أن هذه المثل العليا بإمكانها أن تعيش في عالم المدينة الحديثة، القائمة على حركة المال والتجارة والصناعة، وتراكم القيمة المادية للسلعة، مقابل القيمة المثالية للفارس الذي مضى زمنه.

هذه هي أول رواية تتحدث عن الحياة الواقعية، لا الحياة التي لا يمكن لها أن تكون. إن ظهور فن الرواية، في أوروبا، كان علامة فارقة على أن الأبطال لم تعد لهم قيمة. فنحن اليوم ــ في الرواية ــ لا نقبل أن يصطنع لنا المؤلف شخصيات كاملة البطولة، لأن هذه الشخصيات تنقصها الحياة، في حين “أن واجب الروائي هو أن يبدع الحياة”(1).

كما أن الشخصيات الكاملة البطولة، إما تعود بنا إلى فن التراجيديا، الذي يتصارع فيه الإنسان مع قدره؛ أو إلى عالم الخرافات، الذي لم يعد يتسع عالم المدينة له اليوم. وكل هذه التحولات حدثت في أوروبا، فيما كان يعيش العالم العربي ظروفاً أخرى.

يقول الدكتور عبد الرحمن بدوي، في تقديمه لترجمته لرواية دون كيشوت:”إن دون كيخوته(2) رمز النبالة، الساعية في خير الإنسانية، ولكن وسائلها العاجزة لا تستطيع تحقيق أمانيها؛ رمز للمثل الأعلى الإنساني، الذي ـ دائماً ـ يصطدم بالواقع الكالح، فينتهي بالإخفاق. ولكنه إخفاق هو عندي أعظم من كل نجاح، عملي مادي واقعي لاصق بالطين؛ إنه القطب الهادي دائماً إلى مزيد من السمو الإنساني، الداعي إلى مزيد من العدالة والإنصاف وتقرير الحقوق؛ إنه صوت العدالة العليا تصرخ في عالم حافل بالمظالم. ولا عليه إن ظل صوتاً يصرخ في البرية: فإن هذا النداء ـ حتى لو كان خافتاً جداً، تطغى عليه كل أصوات الظلم والنفاق والخديعة والوضاعة والمَلَق والدس والوصولية والإمعية ـ سيظل دائماً العلامة على نبل جوهر الإنسان، رغم خساسة أفعاله ودناءة أطماعه. والإنسانية لم تتقدم ـ على مدى الزمان ـ إلا بفضل نماذج قليلة من أمثال دون كيخوته، تألقت في سمائها الملبدة بالغيوم، في لحظات صحو وصفو نادرة”(3).

ما يشبه النص:

لا يمكن تلخيص أي نص أدبي أبداً، لأن كل نص أدبي هو كل متكامل لا يقوم بعضه بالنيابة عن بعض، ولا يمكن لأحد أن يلخصه، لأننا نعلم أن أي تلخيص هو تناول للحدث لا للشكل، مع العلم أن الشكل في الفن هو الأهم من الموضوع. ورغم ذلك دعنا نقدم تلخيصاً مخلاً لأحداث الرواية العظيمة، لغرض الدراسة الأكاديمية فحسب.

في ناحية من نواحي إقليم (ألمَنْتشا) بأسبانيا، كان يعيش الرجل النبيل الشريف (كيخادا) أو (كيسادا). وله رمح، وترس عتيق، وبرذون ضامر، وكلب سلوقي. وكانت تقيم معه خادمة تجاوزت الأربعين عاماً، وبنت أخت لم تبلغ العشرين، وصبي للحقل والمدينة يسرح البرذون ويستعمل المنجل.

وكان كيخادا يشارف الخمسين، مجدول الخلق، ضامر البدن، أعجف الوجه، يقضي معظم وقته منكباً على قراءة كتب الفروسية، بلذة ونهم يبلغان حداً يجعله ينسى الخروج للصيد أو إدارة أمواله، إلى الحد الذي أفقده صوابه، وأسلمه إلى فكرة استبدت به، هي أغرب ما يتخيله مجنون في هذه الدنيا: أن يهجر بيته ووطنه، ويتحول إلى فارس جوال، يمارس ما كان يمارسه الفرسان الجوالون ـ الذين قرأ عنهم في كتب الفروسية ـ فيصلح أخطاء الكون، ويتعرض لأخطار السفر والتجوال، بحثاً عن المظلومين لينصرهم، لكي ينال ذكرى لا تمحى أبداً. ومنذ هذه اللحظة سيسمي نفسه: دون كيشوت. فلما رأى أن من ضرورة اسم الفارس أن يقرن اسم بلدته باسمه، فقد حلا له أن يضيف إلى لقبه (دلامنتشا) ليكتمل الاسم على هذه الصيغة الفروسية “دون كيشوت دلامنتشا”. وأخذ أسلحة قديمة مهترئة كانت لأجداده. ولما رأى أن تلك الأسلحة ينقصها خوذة، فقد تدارك الأمر بصحن حلاقة، أخذه من حلاق متجوّل وعدّه خوذة. ثم ركب برذونه الهزيل، معتبراً إياه فرساً أعظم من فرس الإسكندر، وسماه (روثينانته) أي سابق الأفراس. ثم أخذ يبحث عن اسم للأميرة التي سوف ينقذها ـ كما يفعل الفرسان في الكتب ـ إلى أن تذكر أنه كان يعشق في صباه فلاحة لا تعرف عن عواطفه شيئاً، فسمى أميرته الموهومة باسمها، وبعد أن أضاف إليها الألقاب اللازمة، أصبح اسمها هو (دلثنيا دل توبوسو)، وصار دون كيشوت الآن مستعداً لأن يبحث عن جني مارد يهزمه، ويجبره على المثول بين يدي محبوبته الموهومة، معترفاً بهزيمته أمام الفارس النبيل (دون كيشوت دلامنتشا).

ولما أتم دون كيشوت جهازه، خرج خرجته الأولى بحثاً عن المغامرات. فصادف خادماً يضربه سيده في الطريق، لأنه يهمل رعي الأغنام، فشن حملته على السيد المسكين وأنقذ منه الفتى. ثم واصل سفره بحثاً عن المغامرات، إلى أن تعرض لمجموعة من التجار، وأراد إجبارهم على الاعتراف بأن حبيبته أجمل امرأة في الدنيا. ولكن أحدهم انهال عليه بالضرب حتى أغمي عليه. وظل ملقى على الطريق، حتى جاءه من ساعده على العودة إلى بيته، حيث وجد من يحبونه (ابنة أخيه والقس والحلاق) وقد قرروا إحراق تلك الكتب، التي تسببت في جنونه.

لكن كل هذا لن يثني دون كيشوت عن الخروج إلى المغامرات مرة أخرى، إذ نراه يفلح في إقناع جاره الطيب المسكين (سانشو) بمرافقته ـ كتابع للفارس الجوال ـ ليحمل سلاحه، مقابل وعد بمنحه جزيرة غنية أو مقاطعة يحكمها، بعد تحقيق الفوز على الأشرار!. وهكذا تبدأ الخرجة الثانية، التي يتعرض فيها دون كيشوت لطواحين الهواء بصفتها مَرَدة، ولقطعان الأغنام على أنها جيوش، ويدخل الفنادق والخانات على أنها قصور وحصون، وفي كل مرة ينكسر رمحه الخشبي الهزيل، ويقع صريع الضرب والسخرية والهزيمة. كل ذلك وتابعه سانشو يحاول إقناعه بالعدول عن مغامراته، دون جدوى، إلى أن ينجح محبوه من جيرانه في خداعه وإقناعه بالعودة. وهنا ينتهي الجزء الأول من الرواية.

في الجزء الثاني من الرواية نجد أن ستة أسابيع من الراحة لم تكن كافية لشفاء دون كيشوت من أوهامه، فيخرج مع سانشو خرجته الثالثة، لمزيد من المغامرات. ويحدث خلال ذلك أن يلتقيه الطالب الجامعي (سامبسون) الذي كان قد قرأ عن مغامرات دون كيشوت المطبوعة في كتاب، وقرر أن يراه على الطبيعة.

ورغم أن سامبسون كان راغباً في معالجة جنون دون كيشوت، إلا أنه كان يضمر له حسداً غير قليل على شهرته. ومن ثم فقد قام بتحديه للمبارزة، بشرط أن يترك المهزوم حياة الفروسية. أما دون كيشوت الذي يملأه العجب من شهرته المفاجئة فقد قرر أن عليه الآن أن يكون جديرًا بشهرته كفارس جوال حقيقي. وتأتي المصادفة لخدمته إذ يفوز على سامبسون. ومن ثم يتاح له المجال لمواصلة رحلة المغامرات بخرجة ثالثة يرافقه فيها سانشو مرة أخرى.

خلال إحدى مغامرات هذه الخرجة، نرى سانشو يشارك أحياناً في السخرية من دون كيشوت، فيحضر ثلاث فتيات مزارعات، ويوهم سيده بأن إحداهن هي أميرته (دلثنيا دل توبوسو)، وأن الفتاتين الأخريين هما وصيفتاها. وعندما يكتشف دون كيشوت الخدعة، يضطر سانتشو إلى الادعاء بأن الأميرة دلثينا مسحورة، وأن السحر هو الذي حولها إلى فتاة مزارعة. وهكذا تستمر المغامرات، وتستمر السخرية من الفارس الذي يعيش في زمن ليس زمنه، إلى أن تنتهي الرواية بعودته إلى القرية، وقد امتلأ جسده بالجروح، فيُصاب بالحمى، ويسترد عقله على فراش الموت.
ــــــــــــــ
الإحالات:

1ــ پيرسي لوبوك. صنعة الرواية. ترجمة عبد الستار جواد. منشورات وزارة الثقافة والإعلام. دار الرشيد للنشر. سلسلة الكتب المترجمة. بغداد. 1981. ص46
2ــ يفضل الدكتور عبد الرحمن بدوي أن يترجم الاسم بـ(دون كيخوته) خلافاً للسائد، ورغبة في الاقتراب أكثر من اللفظ الأسباني
3ــ ثربانتس. دون كيخوته. ترجمة عبد الرحمن بدوي. ط1. جزء1. دار المدى للثقافة والنشر والمجمع الثقافي. دمشق وأبو ظبي. 1998. ص22

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى