رسالة إلى: فيض

منى مصطفى | روائية وكاتبة تربوية مصرية

ابنتي الحبيبة فيض، سلامُ الله عليكِ حيث كنتِ، وبركاته عليك حيث حللتِ، جفاني النوم هذه الليلة، ولا أدري لماذا كان طيفُك يزاحم أفكاري، وذكراك تُحدث صخبًا في قلبي، هل تتوهمين أنك لم تقدِّمي لي شيئًا ذا بال، أو أن صروف الدهر قد تأخذ كلًّا منا في طريق كما هو حال الدنيا؟
لا أظن ذلك!
فها أنت رغم البعد وانقطاع الرؤية بيننا لأشهرٍ، ترافقين عقلي وقلبي في آنٍ.

دعيني أذكِّرك كيف أسرتِ قلبي؟
في بداية تعارفنا كان كل الحضور يُسلمون عليَّ سلامًا باردًا يُشبه يومهم، وكنتِ وحدَك تُقبِّلين رأسي، فتشعلين قلبي حبًّا لك بإكبارك لي وبأدبك الجمِّ، وحُسن حديثك، ومراعاتك لمشاعر كلِّ مَن حولك، حتى عندما تترجمين كلامًا في مَحفلٍ ما، فأُراقبك لأجدك تنتقين أجملَ كلمات تعبِّر عن المعنى، وتتغاضين عما يمكن أن يكدِّر خاطر الآخر!

عهِدتُك متدفِّقة المشاعر، تَنثرين الحبَّ والحياة حيث حللتِ، فأستعيد صورتي يوم كنتُ في عمرك، فتُزهر ربوع قلبي، وأعيش ذلك العمر مرة أخرى في قفَزاتك وضَحكاتك.

هل تظنين أنني أنسى مغامرتك بمخالفة قوانين الكبار الصغار، حتى نتقابل ونتحدث دقائقَ، ثم تنصرفي غيرَ عابئة بما يمكن أن يُؤذيك؟
هل تعتقدين أن رائحة القهوة من يديك تُفلتها ذاكرتي، كيف ذلك وهي مخلوطة بالحب وناضجة على حرارة الصدق؟

هل تتوقعين أنني أنسى يوم أتيتِ في قيظ الصيف تبحثين عني لتتركي لي وردًا في يوم ميلادي، وكأنك وحدك العالم الذي يُحبني ويهتم بوجودي؟

آه يا فيض !
إنك إن توهَّمت ذلك فقد اتَّهمتِني بالغدر، فكيف أنسى الإحسان وأنا التي وُفِّقتْ لإكرام المسيئين؟!

هل نسيت يا فيض لهفي عليك يومَ خطَفت يدُ الردى حبيبك وأمنك وأمانك؟ هل نسيت تلك الأدمع التي كانت تَزرفها عيناك لتخطَّ ألَمَها في قلبي أنا؟

أتدرين يا فيض!
ما رأيتُ أحدًا له نصيب من اسمه مثلك، أنت لا تسمحين لأي شخص عرَفك بصدقٍ إلا أن يغرق في حبك.

أتتذكرين يا فيض يوم كنت أغار عليك عندما يكلِّفونك بعمل زائد دون مقابل؟ أتتذكرين جمودي معك في ذلك الوقت؟ ما كان ذلك إلا صيحة مكتومة مُنعتُ من إخراجها، ولكنها كانت صحية حب: (لا تؤذوا ابنتي وتستغلوا اتِّقادها لصالحكم بغيًا عليها).

سألت نفسي: لماذا سيطر طيفُك على عقلي اليوم، فمنعني النوم؟ وجدتُ سبب ذلك هو لقاؤنا الأخير!

رأيتك فجأة على غير توقُّع، نظرت إليك فإذا بياسمينة تضيء سماء المكان، فرحتُ وركضتُ لأَروي قلبي المشتاق إليك، ولكن حال دون ذلك ما لا أعلمه! ثم توالى صخبُ اليوم لأشعُر للمرة الأولى أنك بجواري ولم أرَك في حين أنك معي في البعد، تجاهلت ذلك الحدث يومًا ويومين وثلاثة، غير أن قلبي أبى التجاهل وبقِي يؤزُّني لأكتُب إليك أزًّا.

فقال عقلي: ماذا تريدين منها ما دامت بخير، فهذا يكفيك.

لكن قلبي أبى الموافقة على ذلك، وهمس لعقلي بصوت يَخنقه البكاء: كنت أحتاج إليها في هذا اليوم على وجه الخصوص، لم يكن هناك من يستوعب مشاعري غيرها!

فقد كانت لدي مصيبة كبيرة حبستها في صدري؛ لأني لم أجد أحدًا يتلقاها كما هي في قلبي، فقد انتقل حبيب قلبي وصنو نفسي إلى جوار ربه عصر الأربعاء آخر أيام رمضان، ألقوا إليَّ الخبر، ثم انصرفوا يسعدون بالعيد، كلما جُلت ببصري فيمن حولي لأجد من أقول له:
(أنا جريحة كسيرة، فقدتُ خالي ووالدي وحبيبي اليوم)، أجدهم منصرفين للفرح بعيد الفطر أو بعيد ميلاد الجهاد في أرض العزة، فأُجاريهم وأَمزِج حزني على فقيدي ببحر حزني على صغار غزة وصَفوة الأمة، فأهدأ قليلًا، ثم يطفو حزني على حبيبي فوق كلِّ حزن، وأتذكر أيامي ولياليَّ معه، فيثور قلبي حزنًا وألَمًا، ويفرغ الكون من حولي، فتضيق عليَّ الأرض بما رحُبت، وهكذا تتوالى عليَّ موجات من الألم والألم.

آثرت اقتفاءَ أثر العقل وأبقيتُ على صرخة الألم محبوسة في صدري، تركت الجميع يفرحون بأعيادهم، فليس من العقل الحزن بين يدي الفرح، وتظاهرت بابتسامة باردة كقلوب الناس في زمننا! بقيت وحدي أسمع صوت صرختي المكتومة حتى رأيتك في ذلك اليوم، وَدِدتُ لو يتبدل الحال وتكونين أنت الأم لا الابنة ولو للحظات؛ كي ألقيَ بضَعفي بين يديك، ولكني لم أجدك يا فيض!

فيض، كان حولي وحولك الكثير من الناس، ولكن لماذا نحن؟
لماذا نحن تتآلف أرواحُنا إلى هذا الحدِّ، لماذا يكتُب لك الله القبول في نفسي ونفس أهلي جميعًا دون أن يروا وجْهك أو شخصك؟
أتظنين أن الله – حاشاه سبحانه – يفعل شيئًا عبثًا! لا ومَن قدَّر فهدى، وحكم فعدَل، وألَّف بين القلوب ولو أنفقنا ما في الأرض جميعًا ما ألَّفنا بينها!

يا فيض، ستظلين في قلبي كما كنتِ وزيادة، فالأرواح جنود مجندة ما تعارَف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلَف!

وفي كل حال ربما أنا وحدي مَن تعلم سرَّ قرارك بمغادرة العمل، لقد كان قرارًا ثوريًّا بحق، ومع كل الأسباب المعلنة، فإن هذا القرار ما كان إلا وقفة حاسمة مع نفس أبيَّة لا تقبل إلا أن تكون في قنة القلوب لا ينافسها في القمة والتفرد أحدٌ.

نفسُك الحالمة الودودة الصابرة المثابرة الراغبة المتمنعة أبت أن يشاركها في عشها أحدٌ، فاختارت أقل النارين اشتعالًا وهي نار الاعتزال، تأملت موقفك وعزمَك، فوجدتُك أقوى مني، وأعظم شجاعةً، فتضاعف حبُّك في قلبي، فقد كنتِ أشجعَ مني وأقوى!

هل تذكرين حديثنا عند البحيرة نجترُّ آلامَ وأحداث الظلم التي وقعت عليَّ بلا جريرة؟

هل تذكرين وأنت الصغيرة الكبيرة كلمتك: (كيف تحملتِ كل ما وقع عليك من ظلمٍ؟ ولماذا تحمَّلتِ؟)، سؤالك البريء المحب هذا لَم أجد له إجابة إلا كلمة (قدرُ الله)، لكنه كشف لي جمال عقلك وإباءَ نفسك كما، كشفتْ لي العشرةُ مسبقًا جمالَ رُوحك وقلبك.

لا أعلم دافعًا لكتابة هذه الرسالة ولا قيمة اجترار كلِّ تلك الذكريات والأفراح والأتراح، غير أن الحديث إلى حبيب مثلك هو غاية في ذاته، ولكي أُطمئنك، لن أكون عبئًا عليك ما حييتُ، فلتبقَ القلوب على حبِّها، ولتتحرك الأبدان كما تقتضي الضرورة.

كوني بخير والسلام؛ منى، الكويت في 20 /5 /2021 الرابعة صباحًا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى