الشيخ يعقوب وعلم البلاغة العربي

رضا راشد | الأزهر الشريف
أما بعد:
فإن المرء من أحداث عصره المتوالية بسرعة البرق كشاطئ تتتابع عليه موجات البحر : موجة،إثر موجة،إثر أخرى. ما إن تنحسر عنه موجة حتى تغمره أخرى ..حتى إن المرء ليقع أسيرا للحيرة:ماذا يتخذ من هذه الاحداث مادة لقلمه وماذا يدع؟

وقد كان منذ أسبوع تقريبا أن استحضر الشيخ محمد حسين يعقوب شاهدا أمام محكمة في قضية من القضايا..وقد سئل الرجل فأجاب بما هداه إليه تفكيره، فربما يرى الرائي أنه وفق أحيانا وجانبه التوفيق حينا، وربما يرى آخر غير ذلك ..ولكن ما إن انتهى الرجل من شهادته (التي أذيعت على مواقع التواصل الاجتماعي) حتى هب الجميع ممسكين بسياط نقدهم المؤلمة، يلهبون به ظهر رجل له من الفضل ما كان جديرا بأن يشفع له عندهم في تهوين عقوبته والتخفيف من سطوة سياطهم ..ولكن أنى؟ وكيف ؟!!وفي القلوب ما فيها!!

لقد خرج الرجل من ساحة المحكمة التى وقف فيها شاهدا ليقف في ساحة محكمة أخرى موقف المتهم في قفص الاتهام لا الشاهد .

وفي هذه المحكمة الفكرية كثرت السياط الموجعة، وهي على كثرتها متنوعة:فسوط بيد العلمانيين، وسوط بيد الصوفيين القبوريين،وثالث بيد القطبيين، ورابع بيد التكفيريين، وخامس-وهو أعجبهم- بيد بعض السلفيين الذين تخندقوا في خندق العصبية والتحزب المقيت؛ استدعاء لمواقف سابقة في مشهد استحضر فيه حوادث الثأر الصعيدي :فيوما بيوم،ومؤاخذة بمؤاخذة ،ونيلا بنيل .

وقد يثار هنا سؤالان:
أحدهما : آلان تتكلم عن هذه القضية وقد سبقك بها الفلاسفة والمتكلمون، والحكماء والمتفقهون؟
ثانيهما: ما صلة علم البلاغة العربي بالشيخ يعقوب حتى قرنت بينهما، فكنت كم ضم مشئما إلى معرق ، أو ربطت مشرقا بمغرب؟

فأما الإجابة عن السؤال الثاني فهذا ما سيتضح في أثناء المقال، وأما الإجابة عن السؤال الأول فأقول:
كان التأخر تريثا في الحكم على الرجل وعما قيل فيه، وتمكينا للتدبر من كلام الرجل وكلام الآخرين عنه: حرصا على العدل، وفرارا من الارتكاس في حمأة الظلم كما كان من غيري .

إن الله تعالى أمرنا بالعدل مع الناس أي ناس《كونوا قوامين بالقسط شهداء لله》[النساء:135] و 《كونوا قوامين لله شهداء بالقسط》[المائدة:8 ]. والعدل: حكم بالحق على شخص لآخر، لا يشغل الحاكم أن يكون المحكوم عليه وليا 《ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين》[النساء:135]أو أن يكون المحكوم له عدوا《ولا يجرمنكم شنئان قوم على الا تعدلوا، اعدلوا هو اقرب للتقوى》[المائدة:8]، وبهذا العدل قامت السماوات والأرض، وبه أيضا تقام الدول ولو كانت كافرة، وبدونه تقوض الدول ولو كانت مسلمة، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “إن الله يقيم دولة العدل ولو كانت كافرة، ولا يقيم دولة الظلم ولو كانت مؤمنة “.

وكما يكون العدل في الأفعال يكون في الأقوال قال تعالى:《وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى》[الأنعام: 152]، وفي هذه تكمن أهمية الكلمة العادلة، وتُتَبين خطورةُ الكلمة الظالمة، فكم من كلمة ظالمة هدمت بيوتا، وقوضت دولا، وأشعلت نارا في النفوس ..فالعدلَ العدلَ رحمكم الله.

ولا يتحقق العدل في الكلام بمجرد النية الصالحة، بل له وسائل ومناهج تفضي إلى تبين مراد المتكلم من كلامه، فإن العلم بمقاصد المتكلمين من كلامهم علم ضرورة.

وهنا تظهر الحاجة الملحة إلى علم البلاغة العربي كعلم يمتلك من الوسائل والفنون والقوانين والقواعد ما يقف المخاطب على مراد المتكلم من كلامه، سبيلا للحكم على بالعدل بلا ظلم: إما بإهمال شيء من دلالات الكلام، وإما بتحميل الكلام ما لا يتحمل، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم. وفي هذه النقطة تبدو العلاقة واضحة بين جزءي العنوان:

(الشيخ يعقوب وعلم البلاغة العربي)

فعلم البلاغة هنا يبدو ميزان القسط وقسطاس العدل في يد المخاطب حكما على كلام المتكلم .

لقد علَّمنا سادتنا البلاغيون أن الكلام تتفاوت معانيه: ظهورا وخفاء، وأن هذا الخفاء ليس على درجة واحدة، وأن المعنى الظاهر يشترك في معرفته العامة والخاصة، بينما يختص أولو النظر والبصائر بالوقوف على المعاني الخفية المستكنة في ضمائر الكلم والحروف وهي التي يسميها البلاغيون بالمعاني الثانية .

وللوقوف على هذه المعاني مناهج وسبل أهمها (ربط المقال بالمقام) الذي قيل فيه -فإن معنى المقال الواحد يختلف باختلاف المقام -، ومراعاة سياق الكلام : سباقا ولحاقا .

فأما عن ربط المقال بالمقام فإليك مثالا على ذلك: فإنك لو نظرت إلى هذه الجملة: كم الساعة الآن؟ لوجدت أنها قد تكون استفهاما حقيقيا حين يتوجه بها الجاهل بالوقت إلى عالم به لمعرفة الوقت تحديدا= وتكون استنكارا، وتوبيخا، وزجرا، وتقريعا إذا سأله مدير العمل لموظف تأخر عن عمله. فقد اختلف المراد منها مع أنها هي هي وما ذلك إلا لاختلاف المقام.

ومثل من اقتطع الكلام عن سياقه كما زعم أن الله عز وجل نهى عن الصلاة بقوله: 《لا تقربوا الصلاة》[النساء: 43] أو أنه سبحانه توعد المصلين بالويل فقال: 《فويل للمصلين》[الماعون:4]!!

ولو تأملنا فيما نحن بصدده لوجدنا أن جل ما وقع في الرجل من ظلم كان سببه اقتطاع الكلام عن سياقه، أو عدم ربط المقال بالمقام والنظر للكلام نظرة مجردة للحكم على الرجل حكما غير مجرد بل نابع من مواقف ثابتة منه لا تتلحلح.

لهذا يحسن بي أن ألخص مقام الرجل كما تمثلته؛ حتى يتبين أي مقال يقتضيه ذلك المقام لنصل من ذلك إلى : هل جاء مقال الرجل موافقا لمقامه فيقبل أو جاء المقال مخالفا للمقام فيرفض وينقد؟
تمثل المقام
إن موقف الرجل في كلامه موقف شاهد في محكمة (لها ظروف خاصة لا يتأتى لأي عاقل منصف تجاهلها ):في قضية متهم فيها شباب بالتكفير والعنف، ومن هنا فإنه قد يتلفظ لفظة توحي من بعيد بشيء، فتقود بالتأويل هذا المتهم أو ذاك إلى حبل المشنقة وقد يتكلم بالكلمة فيستفيد منهما جهات عدة في أوقات مختلفة ..ناهيك عما سبق المثول امام المحكمة من استدعاء ثم ضبط وإحضار وغير ذلك مما يكون له الأثر على الرجل المسن المريض ..هذا ما تمثلته من عناصر المقام، وقد يكون هناك أشياء أخرى مما لا أعرفها. ولعل هذا الذي اقتضى من الشيخ حفظه الله أن تاني إجابته على هذا النحو:
(^) أسئلة أجاب عنها بلا أدري.
(^) أسئلة أخرى أجاب عنها بكلام عام.
(^) أسئلة لجأ فيها إلى الكناية والتلميح دون التصريح.
(^) أسئلة أجاب عنها بكلام صريح لا يحتمل تأويلا..وهذا الذي لا يبصره النقاد لغرض في نفس يعقوب .

هذا الذي كان من الرجل:مقالا نابعا من رحم المقام الذي كان فيه ما نعرفه من تفاصيله وما لا نعرف .
فماذا كان من نقاده ؟
(^)كان تعصب على الرجل نابع من مواقف منه سابقة، بحيث لا يجدي الرجل معهم أن كان يأتيهم الرجل بالعسل المصفى.
(^) وكان تسرع نابع عن التعصب أدى للحكم على الرجل من النظرة الأولى لكلامه، وهي -كما يقول أئمتنا حمقاء- فلم يتبينوا ما في كلامه من فضل، وأخذوا عليه أقوالا أكبر ما يقال فيها: إنه إن لم يحسن فيها فهو لم يسئ، وإن لم ينطق فيها بالحق البين الكامل فما قال فيها باطلا.
(^) وكان النظر المجرد لمقاله؛ إغفالا لمقام لا يدري الناقد لو كان فيه ماذا كان سيقول، وكما يقول العامة: “اللى على البر عوام”.
(^) وكانت الموازنة بعقد المشابهة بين مقامات تختلف فيما بينها اختلافا كبيرا.
(^) وكان اقتطاع الكلام من سياقه كاتهامه بأنه نفى عن نفسه السلفية، مثلا.
(^) وكان اقتطاع الموقف من سياقه من حياة الرجل؛ فلئن سلمنا جدلا أن الرجل أساء كل الإساءة في هذا الموقف: أفلا يشفع له كل حسناته على مدى أربعين سنة؟! أولا يشفع له تأوله للمصالح والمفاسد التى اكتنفت وقوفه في هذا الموقف والتي قد نعمل منها شيئا ونجهل منها أشياء ؟!
فما كل هذا الظلم ؟
كأني بعلم البلاغة العربي يصرخ فينا يقواعده وقوانينه:
رويدا رويدا أيها النقاد، وتريثوا في تدبر كلام الرجل تدبرا قائما على استبصار العلاقة بين المقام والمقال، وانظروا في الكلام نظرة كلية ترد أوله على آخره، وآخره على أوله، فإنكم إن فعلتم ذلك فأصبتم في تبين كلام الرجل والحكم عليه فلكم أجران، وإن أنتم سلكتم ما سلكتم في تبين مراد الرجل من كلامه ثم أخطأتم، فحسبكم أنكم سلكتم السبيل القوم والصراط المستقيم وحينئذ لن تحرموا الأجر.
وقد بلغت رسالة البلاغة إليكم
فاللهم فاشهد .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى