نحو نظرية للأجناس العابرة

د. نادية هناوي | ناقدة أكاديمية عراقية

كان هذا مدار البحث الذي قدمته الدكتورة نادية هناوي في الندوة الثقافية الأسبوعية لصالون أدبيات الافتراضي وأدارها الدكتور محمد منور من جامعة الملك سعود في الرياض. وابتدأت الناقدةحديثها بقضية الأجناس بوصفها أهم القضايا في النظرية الأدبية، مقدمة مفهومها الخاص للعبورالذي هو محور نظريتها التي تضمنها كتابها( نحو نظرية عابرة للأجناس في بينية التجنيس والتمثيل) 2019 متبنية رؤية انفتاحية تقوم على فكرة التهجين سيولة وانصهارا واحتواء،وبما يجعل من جنس ما غائراً او ذائباً في جنس آخر أقوى منه وأرسخ سمته هناوي( الجنس العابر) كنوع من التوفيق وردم الهوة بين نظرية الأجناس في حديتها القطعية ونظرية التداخل الاجناسي في انفلاتيتها وعمومية التنافذ والتضايف فيها.

وجرت مناقشة أطروحة الدكتورة هناويعبر مداخلات وتعقيبات كثيرة، شارك فيها عدد من الأساتذة والأكاديميين من جامعات عربية مختلفة،ودارت الأسئلة حول الموضوعات التي طرحتها هناوي عمن يحدد الجنس الأدبي هل هو الناقد ام المبدع ؟ وهل يمكن أن تكون قصيدة النثر هي الجنس الأدبي الأكثر عبورا من غيرها ؟ وكبف أن القصيدة القديمة تضم في داخلها الأسطورة والقصة وأن من الرواية تتفرع الرواية التاريخية والرومانسية؟ وهل يتضمن العبور نهجا افقيا او عموديا في عملية الضم والاحتواء به يثبت القالب او يتغير؟ وكذلك عن المرجعية في الحديث عن نظرية العبور الاجناسي وأن لجيرار جينيت تصورا مفاهيميا للتناص والنص الجامع وما فرق الحدود عن العبور؟ وهل يمكن للقارئ أن يحدد مؤشرات الجنس ؟ ولماذا نهتم كنقاد بالنص الغربي ونهمل استنطاق نصوصنا العربية؟ كما جرى التساؤل عن الفارق بين العبور والتداخل بوصف الاخير هو الازدحام والتشابك المستمد من الدراسات الثقافية ما بعد الكولونيالية والدراسات البينية التي تسعى إلى التكامل المعرفي؟ أ يصح القول إن قصيدة النثر بلا حدود بسبب تداخليتها مع كل الاجناس وماذا عنسوزان برنار ورؤيتهالقصيدة النثر ؟ وما هو المعيار الذي يمكن الاعتماد عليه في تحديد حدود الجنس الادبي؟ وهل أن للتهجين والحوارية التناصية التي جاء بها ميخائيل باختين معيارا تناصيا ليس فيه انزياح سلطوي؟ وآخر الاسئلة كان عن القصة القصيرة جدا، ما حدها؟ وما المميزات الجمالية التي تجعلها شبيهة بفن التوقيعات؟

وقد أجابت الباحثة عن هذه التساؤلات مؤكدة أهميةكل هذه المداخلات،وأنّ لب الإشكالية في فهم نظريتها يكمن في هذه المسافة التجسيرية المهمة والخطيرة بين التداخل والعبور، مبينة أن الفارق بينهما يكمن في أمرين :

ـــ الأول أن يكون أحد المتضايفين جنسا راسخا يتمتع بالرسو والثبوت وصلادة التحقق والوثوق به جنسا قائما بذاته، كأن يكون من الأجناس الارسطية التي لها علاقة بالملحمة والدراما والشعر الغنائي، أو الأجناس التي مكّنها تطورها التاريخي من أن تثبت صلادة أجناسيتها كالقصة القصيرة وقصيدة النثر.

ـــــ الثاني أن يكون المتضايف الآخر غير موصوف بالرسوخ الاجناسي بسبب مرونته وميوعة تمثيلاته، ومحدودية الاشتغال فيه لكونه فرعا، وليس أصلا، كأن يكون شكلا في صورة الومضة / التابلو / العمود / الهايكو / النص التفاعلي أو يكون نوعا في صورة القصة القصيرة جدا أو الكتاب السردي أو يكون جنسا من أجناس النثر أو الشعر أو فنا كالتشكيل والتصوير والسينما والنحت أو علماً مثل التاريخ والفلسفة وعلم النفس والميثولوجيا.

ولا يعني العبور بين الأجناس رفضا لولادة أجناس جديدة؛ وإنما هو رفض لتلك المحاولات التي تستسهل عملية الولادة الاجناسية وتتعدى على متاحات قواعد التجنيس ومواضعاته، وبذلك تنتفي بالعبور دعوتان: دعوى موت الاجناس وتوالدها ودعوى اللاتجنيس.وخير مثال على ما تقدم الحوارية أو الحواريات التي نظّرتْ لها نقديًا ومثلتْها إبداعيًا الفرنسية ناتالي ساروت، وتأثر بها كتّاب غربيون وعرب لكنها تظل شكلا سرديا منضويا في حدود القالب الاجناسي للرواية العابرة عليها بسبب ما فيها من تجسيد تخييلي للواقع النصي وسعة تمثيلية دراماتيكية.

وأضافت صحيح أن حوارية باختين دشنت التعددية لكنها فنَّدت الحدية وفتحت الباب على مصراعيه للهجانة التي معها لا يكون للتجنيس وتنويعاته أي حضور في هذه الحواريةتماما كجوناثان كلر الذي أكد مسالة اللانوعما دامت كل الأشكال قابلة للقراءة والتمييز وهو ما تعترض عليه نظرية العبور إذ ليس القول باللاحدود في صالح الأدب وتقسيماته، تماما كما أن في القول بالنقاء في الأجناس هو غلو ومجانبة للحقيقة.

وأشارت الباحثةإلى أن عملية الإنتاج الكتابي محصلتها النصوص وأن عملية التفكير في هذا الإنتاج محصلتها الأجناس. ومن ثم تسبق بنائية النّص تصنيفية الجنس الذي لا يفكر فيه إلا بعد أن تكون تلك البنائية قد استقرت بعد مخاض إثبات الوجود حتى وصلت إلى مرحلة التجسد قالباً له حدوده. فقالب الدراما مثلا مختص بإبداعية النص المسرحي التراجيدي والكوميدي وقالب الشعر الغنائي تتجنس فيه الأشعار الوجدانية والرثائية والهجائية والحماسية الأنوية والخطابية، والقالب الملحمي مختص بالنصوص الشعرية الغيرية والموضوعية والبطولية الضخمة.

ولا تنيط الباحثة تحديد التجنيس بالناقد بل هو عملية اشتراكية بينه وبين المبدع منتج النص الذي قد يكون أسبق في الوصول الى العبور الاجناسي بحكم ممارسته الكتابية من الناقد الذي عليه الاستقراء والبلورة والمقايسة النهائية للحالة.ومثّلت على ذلك بما فعله ادجار الن بو حين أصدر كتيبا نقديا كان بمثابة حجر الأساس لان تكون القصة القصيرة جنسا قائما بذاته، وكذلك عزرا باوند واندريه بريتون والان روب غرييه وامبرتوايكو. ومن العرب ادونيس وادوار الخراط ومحمد بنيس ومحمد خضير وجهاد مجيد.

ومما أكدته الباحثة قولها:”صحيح أن الكتابة الابداعية حرة والآداب والفنون والعلوم تتطور وتتداخل، غير إنه ما عاد بالإمكان غض النظر عن فاعلية التجنيس من ناحية رسوخ صفته كجنس أدبي فلاينفلت من القولبة محافظا على اجناسيته الأصلية”.

ومن تاكيداتها أيضا ليست كل الاجناس الادبية عابرة انما العابر الذي هو الصاهر والمذيب لأنواع دونه أو أجناس أضعف منه لا تقدر على مقاومة جاذبيته التي بها تتوكد حديته ورسوخه واختلافيته أي فقط من استطاع أن يندمج بجنس آخر غيره فيهضمه ويحتويه ثم يعبر عليه ليكون جنسا عابرا Transient literary genre.

وقد حددت الاجناس العابرة بأربعة أجناس هي: الرواية والقصة القصيرة وقصيدة النثر والمقالة،وتمضي في الكلام عن هذه الاجناس وعابريتها ” أن القصيدة التقليدية بنوعيها العمودية والتفعيلية هي جنس شعري ثبت قالبها لأكثر من ألفي عام؛ وظلت محاولات الإفلات تمور في التمظهرات الداخلية وليست الإطارية للقالب، وهو ما استطاعته( قصيدة النثر) التي أثبت قالبها قدرته على العبور محتويا الشعري بالسرديوالتخييل بالتكثيف والصوت بالدلالة. ولعل لقصيدة النثر أنواعا شعرية وأشكالا وصيغا ستنضوي فيها مستقبلا أيضا، ونحن اليوم إذ نتحدث عن قصيدة ومضة وقصيدة هايكو وقصيدة قصيرة وقصيدة بصرية وقصيدة مؤنثة وقصيدة درامية وقصيدة منفى وقصيدة حوارية، فإنها كلها قابلة لأن تكون منضوية في جنس واحد مستقل هو قصيدة النثر بوصفها جنسا شعريا عابرا.

وردت الناقدة دعوى أن جيرار جينيت او باختين او سوزان برنار قد قالوا بالعبور Transitلان ما طرحه هؤلاء جميعايظل في حدود التجنيس والتداخل النصي عبر النظر الى النصوص بانفتاحية مما سمته جوليا كرستيفيا التناص أوما سماه باختين بالتفاعل السوسيولفظي واهتمامات جيرار جينيت بالمتعالقات النصية وجامع النص وأطراس النص ليكون هؤلاء وغيرهم قد تركوا حبل التجنيس على الغارب.ومن ثم صار ممكنا ابتداعتسميات شتى وبفوضويةمن قبيل( اقصودة / مسراوية / تكتيبات سوريالية / ترحالات سردية/ تمارين قصصية / بورتريهات / كتاب قصصي/ متتاليات / متواليات / متوالية ما بعد سردية / شذرات / أعمدة/ وحدات / ورشة قصصية/ هلوسات)..وغيرها مما لم يتحقق لها شرط الاختلاف أو اثبات الرسوخ.

وردا على ما أثاره أحد المداخلين حول العلوم البينية والتداخل قالت الباحثة:” إنالحاضن الفلسفي لنظرية العبور ينطلق أصلا من الدراسات الثقافية وضرورة التماشي الأدبي مع  فكرة الانفتاح والاندماج والتنوع وأن الانسان متعدد في أبعاده وهويته ولغته وانتماءاته”.

وختمت الناقدة الندوة بقولها:” إنني أجد كثيرا من عدم الوضوحلحقيقة التداخل الذي استقرت مفاهيمه تناصا وتعالقا وتنافذا وتخالطاقبل أكثر من نصف قرن من الزمان فلا نميزه عن مفهوم آخر هو ( العبور الاجناسي) الذي نأمل أن يكون نقدنا العربي هو الحاضن الثقافي له، ولعله يجد من ثم حضورا في المشهد النقدي الغربي وذلك هو أملي الذي أعمل عليه بما يتوفر لي من إمكانيات، وبمؤازرة الوعاة من باحثينا ونقادنا الأفاضل”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى