سيميائية العتبة العنوانية في ” السيد القمر ” للشاعر كاظم الميزري

باسم العراقي | شاعر وناقد عراقي

أولا – النص :

(( حملوا بثورهم الموبوءة

لينثروها في الصحاري

التي تزحف لتزدرد الخصب

وبين صوت الطفولة الحالمة

وصوت النذير

اتسخت شهوة الحضارة الحولاء

مثل تيامات البابلية

غادرتها الرغبة

أكانت هناك لغة لاتصطاد إلا الحروف

في صحراء أغلق بها بابي

لأجل غاية جسدية

حيث أبدية النار يلمحها البحر

ماذا تفعل الصحراء / (جدب الحياة= مقهورة)

بجسد

حمل فزع الأنثى والسلاسل؟

راكضا على أسلاك الجغرافية /( منافٍ)

بأقصى البطء

إلى حيث تشقق الأمنية

وتاويل الظلام

انه يزيح الغموض

بجرة قلم

حتى صار يمضغ المقاهي

ويستخرج ضجيجها

يمد يديه لدرب الصعاليك

ربما سنابله ستموت على حافة الرصيف

يقلق حين يفلت الوقت

مثل سراب

ومن أجل الذين رحلوا

سيكتب بحبر الدموع

قانون الحياة

لزعزعة الخوف رغم قصر المسافة

فالوقت سرير من ريش

وبقايا جثة العطر

حبلى بالاجنحة

عند منتصف السواد

يجلس السيد القمر

مع احجاره مع الينابيع المضيئة

مع المراثي. . مع القيثارات

مع الخواتم مع الطواحين

ياسيد الاقحوان

ياسليل الطقوس المقدسة

لهبوبك هذا الفناء الطافح بالنواميس

من أجلك اصافح كف الحنظل

وفي الممرات ساعلن براءتي

واهيىء الدموع والأناشيد

واعتصر القلب مطرا

اني الأن بلاظل

حزني لابيت له

فدعني أواصل رحيلي في الضوء

ونغني آهات أرواحنا

فلم يعد النهار

يكفي لامتصاص لزوجة العالم ))

ثانيا – الدراسة:

من العتبات العنوانية لبعض النصوص الادبية ،مايمكن التعاطي معها باعتبارها نصاً متكاملاً لما تضمره بنيتها التركيبية والدلالية من معانٍ ودلالات مكثفة،مشفرة ، وتعددية إحالية سياقية، مما يفتح مديات خطابها التواصلي،لثرائه التأويلي ، وطبقيته المعنوية ،فيغدو متنُ النص “مرجعاً” لفهم آلية اشتغال تعالقية ظاهرِ اشاراتَيها( اي تلك العتبة )بما سكتت عنه من (دلالته / قصديته)، من خلال مايقدمه من”مفاتيح” تساعد على سبر غور معانيه.

وسأقوم بتفكيك شيفرة العتبة تلك ، موضوعياً، للوقوف على حقيقة ماسكتت عنه / تضامَّتْ معه من دلالات :

ـ البنية النحوية لجملة العتبة العنوانية:

تركيبية هذه البنية فيهاازاحة بالحذف وكما يلي :

الاشارة “السيد” معرَّفة، فهي إعرابياً:

إمّا مسنداً اليه / مبتدأ ، ومسنده/ خبره محذوف جوازاً.

أو مسنداً / خبراً، لمسندٍ اليه محذوف جوازاً ايضاً.

وسيُقارب المتن معنوياً هُويةَ هذا المحذوف وقصدية الحذف ، لاحقا.

ـ بنيتها الدلالية :

الاشارة “السيد”… ذات سياقين

سياق لغوي :

صفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت من الفعل سادَ المتعدي بحرفي الجر (على/ في )، وهي تعني المالكُ ،المَلِكُ ، الموْلَى ذو العبيد والخدمِ، كلُّ من أُفتُرِضَتْ طاعتهُ،

ويقال :سَادَ قَوْمَهُ أي حَكَمَهُمْ، سَيْطَرَ، هَيْمَنَ عَلَيْهِمْ.

فالاشارة اعلاه في سائر معانيها تدل على( كائنٍ حيٍّ عاقلٍ )، ذي وجاهة وقوة يرفعان من شأنه كي (يتسيَّد) حياةَ الآخرين ، حاكما فيهم او مهيمناً على حياتهم .

بتكثيف المعاني السابقة:

السيّد = صاحب سلطةٍ واجبُ الطاعة

ودلالة(واجب الطاعة)هنا تسكت عن نقيضها،اي انها متضامّة تنافرياً مع (محرم الخروج عليه).

سياق مقامي( خارج النص )/السياق الديني :

“السيد” من المسلمين : من كان من سلالة النبي محمد ، وهي صفة متعالقة مع القدسية لاسيما لدى بعض الطوائف .

فتكون مقاربة دلالتي “السيد”(اللغوية / المقامية) السابقتين :

رأس سلطةٍ ( دين ـ سياسيةٍ )مقدس.

اما الاشارة “القمر” فذات سياقين مقاميين :

الأول علمي / علم الفلك : جرم تابع للارض يدور حولها بفعل جذبها اياه ،معتمٌ تماما ، يعكس ماتسقط عليه من اشعة الشمس فيبدو مضيئاً ليلاً.

الثاني التراث الادبي : اسقاطات الشعراء عليه بما يؤنسه رمزياً لغائية جمالية او وجدانية.

مقاربة هذه الدلالة معنوياً:

القمر = جسم ميت يستمد معنى وجوده من غيره

بتجميع هذه المقاربة مع مقاربة “السيد” اعلاها

[ رأس سلطةٍ(دين ـ سياسيةٍ)مقدس ]

تكون الدلالة المسكوت عنها عنوانياً:

السلطوي المقدس الزائف

وهو متضام تنافرياً مع ظاهر دلالتها.

فما قصدية هذا التعالق اللامتسق معنوياً ،

بين الصفةالحية “السيد” بسائر دلالاتها اللغوية ، و موات دلالة “القمر” واتكائها على جمالية مُسقطَةٍ عليه من لدن آخرين ؟

لو كان ذلك “السيد” متكامل السجايا بذاته، تحظى سيرته بين رعاياه بقبولهم واستحسانهم ، وتحوز افعاله وصنائعه فيهم على اسباب الإئتلاق، لانتفت الحاجة لدى من جاء به( لغاية ما سيكشف عنها المتن لاحقاً)، وحرص على دوام حكمه بعيداً عن اعتراض منتقد ، او نفور متذمر، الى تجميله( صورةً وسيرةً) ببهاء الهالة “القمرية”، و” اقحوانية” الضوع (( سيد الاقحوان)).

ولما كانت الدلالة ،وهي هنا (الهالة)، تستدعي سيميائياً نقيضَها ( الجهامة )، يتضح القصد المخبوء من ذلك التعالق اللامتسق بين الدلالتين ف”السيد” لايتمتع بنضارة الحضور / الزعامة ، ولا بحميد الافعال / الحكم ، مما حمل مريديه على ( تقميره ).

هذا ماكشفه تفكيك العتبة العنوانية من تحتانية دلالة ذلك السيد القمر ، فما “مفتاحية” المتن النصي لهذه الدلالة وهل هي موازية لسابقتها ؟

بتفكيك العبارة المتنية :

(( عند منتصف السواد

يجلس السيد القمر

مع احجاره مع الينابيع المضيئة

مع المراثي. . مع القيثارات

مع الخواتم مع الطواحين ))

السيد القمر (يجلس )اي مطفأ الحركة / متضاد مع الفعل الحركي ( الدوران) للجرم التابع للارض ، فهو هنا مؤنسن.وهو يجلس لوحده حيث لا اشارة لمن يجالسه .

والمقاربة الدلالية لهذا الجلوس المنفرد :

الحاكمية الشمولية / الدكتاتورية ( غير المنفتج على مشاركة الاخرين اياه سلطانه ).

وبالاحالة الداخلية سياقياً على(الدلالة المسكوت عنها عنوانياً:السلطوي المقدس الزائف )

فإن جلوس “السيد” لابد ان يكون على (عرش / سدة) الزعامة، وهو هنا مقام في بؤرة السواد ( عند منتصف السواد )بما ينفي جرمية القمر ( الذي يطلع ليلاً (ظلام محسوب الوقت ينتهي مع بزوغ الفجر = محدودية الاقامة )، فالسواد /مقامية فيزيائية: لون يتولد من قمع باقي ألوان الضوء( لايسمح بإنعكاس أيٍّ منها ) . وله رمزيته الادبية المتعددة الدلالات على دوام الشقاء واستلابية الحياةومرادفاتهما .

فتكون المقاربة الدلالية لما مر ذكره:

السلطوي ذاك زائف القدسية، شموليٌّ ، قاهرٌ للاخرين، تغرق مملكته ( مكان حكمه) بالظلم. وهو منعزل عن الرعية،يمضي وقته مع ( احجاره مع الينابيع المضيئة

مع المراثي. . مع القيثارات

مع الخواتم مع الطواحين )

ومضمر دلالات الاشارات اعلاه :

ـ احجار + الخواتم( مقامية سياقية / الموروث الديني لبعض الطوائف ) = مايلبسه “السادة” من خواتم ذات فصوص من الاحجار الكريمة ، ينقش عليها ايات او طلاسم لغايات غيبية (دفع المخاطر ، استدرار محبة الاخرين … الخ )

ـ ينابيع الضياء :

مصادر البهرجة ، فجرمية القمر معتمة كما مر بنا سابقاً.

ـ المراثي / القيثارات = فوضوية وتضاد المشاعر وازدواجيتها

ـ الطواحين مقامية السياق : الادب العالمي / دون كيشوت ، فالسيد القمري تُنسب اليه انتصارات ( طاحونية) ومارمحه سوى من ( خشب).

بذا جاءت مفتاحية المتن موزاية للدلالة التفكيكية للعتبة العنوانية .

فمن هم اولئك المريدون الذين جاؤوا بذلك السلطوي وتفانوا في تقميره ؟

نستدعي هنا مفتاحية المتن :

(( حملوا بثورهم الموبوءة

لينثروها في الصحاري

التي تزحف لتزدرد الخصب

وبين صوت الطفولة الحالمة

وصوت النذير

اتسخت شهوة الحضارة الحولاء ))

فهم اعداء الخصب، موبوؤون بالتصحر وينشدونه ، والمقابلة بين ( صوت نذيرهم )/ (صوت الطفولة الحالمة)، تشي بمايتوعدون به السلام ،المحبة ، وديمومة الحياة ، من شرور ،وهذه المقابلة توحي بتداعي اسباب الوجودالانساني (اتسخت شهوة الحضارة الحولاء):

الاتساخ + شهوة + الحولاء = وجود تتداخل وتُمسخ فيه صور ومعاني الانسان .

وعند البحث في المتن عن ( زمكان ) ذلك السلطوي القاهر ، يقدم لنا هذا المفتاح :

(( مثل تيامات البابلية ))

تيامات / مقامية :ميثولوجيا ديانات حضارات ما بين النهرين القديمة (السومرية ،الأشورية ،الأكدية والبابلية)، هي إلهة المحيط ، خالقته من خلال زواج مقدس ، ومن ثم خلق الكون ، كما ترمز للخلق من الفوضى البدائية .

بذا تَمَوْضَعَ ذلك السلطوي زمكانياً في(العراق)،لينفتح باب تقدير (المحذوف) من جملة العنوان الاعرابية واسعاً .

زمكان استوطنه الفناء:

(( لهبوبك هذا الفناء الطافح بالنواميس )).

حدَّ أن إلهة الخلق هذه (غادرتها الرغبة)ببعث الحياة فيه من جديد .

والمتن يقدم مفتاحاً لهذا الفناء / منجزات ذلك السلطوي القاهر ، من خلال المقاطع التي سأستدعي بعضها في ادناه على سبيل الاستشهاد:

(( في صحراءأغلق بها بابي ))/ المقاربة :تصحُّر الوطن

(( حيث أبدية النار يلمحها البحر )) / :عطشه المستعر

(( ماذا تفعل الصحراء بجسد

حمل فزع الأنثى والسلاسل؟ )) / :الشرف المروَّع والعبودية

(( راكضا على أسلاك الجغرافية

بأقصى البطء

إلى حيث تشقق الأمنية

وتاويل الظلام )) /: ضياع الاماني في وطن ممزق

(( انه يزيح الغموض

بجرة قلم

حتى صار يمضغ المقاهي

ويستخرج ضجيجها ))/ : هيمنة الرقيب السلطوي على حياة العامة .

((ومن أجل الذين رحلوا

سيكتب بحبر الدموع

قانون الحياة ))/ : الاستهانة بدماء وشقاء الضحايا

فناء مستشرٍ في سائر احلام الناس ، وآمالهم ،يسد عليهم سبل عناق الذات والانعتاق :

(( من أجلك اصافح كف الحنظل

وفي الممرات ساعلن براءتي

واهيىء الدموع والأناشيد

واعتصر القلب مطرا

اني الأن بلاظل

حزني لابيت له ))

ولا غير النزوع للرحيل عن العالم نحو التبدد في المجهول :

(( فدعني أواصل رحيلي في الضوء

ونغني آهات أرواحنا ))

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى