من دفتر فتاة تونسية.. ريح الصدى 2

بقلم: نزهة المثلوثي
زال الظلام وبانت أوراق الأشجار متمايلة مع نسيم طافح برائحة الحقل عطر دغدغ أنفي على وقع زقزقات العصافير التي ملأت الفضاء فأطربت تداعب كياني باسترسال لحونها المتنافسة على عرض انشراحها وشغفها بالشروق والحرية اتكأت على جذع الشجرة أراقب تنقل الشادية بين الأغصان المورقة المخضرة
أخذني المشهد إلى عالم مفعم بالأنس والحبور وجعلني أتجاوز الزمكان إلى البدايات إلى صباح لا ينتهي ولا يليه سكون ليل موحش

الدلو على حافة البئر الذي لمعت صفحة مائه القريبة والتي كادت تفيضها العيون المنهمرة في جوف الأرض .
وضعت الدلو على التراب المبلل وانحنيت أغرف الماء وألقي به على وجهي …
ثم ولجت الغرفة حيث ترك أبي في ركن منها مائدة عليها زيت وعسل وبيض ..غمست قطعة خبزفي الزيت ..فانتابني حزن عميق وشعرت بمرارة الوحدة وغصة الفقد افتقدت أمي التي مازالت ترقد في المستشفى القريب المبنى الوحيد في هذه الجهة النائية البعيدة عن مركز نابل المدينة إنه كبيتنا محاط بالحقول وتفصله بعض الكيلومترات عن حانوت ” الشك ” وحيه المعمور
عدلت عن الأكل ورجعت إلى الشجرة استئناسا بحلاوة النشيد منتظرة قدوم جدتي التي كانت في تلك الفترة تصل بعد الصباح وترجع إلى لحواش قبل الغروب والتي ما إن تنعطف نحو المسلك الترابي تاركة الطريق المعبدة حتى يرتفع صوتها القوي الجهوري
_ نزهة يا نزهة يا نزهة وينك
_انعم يا هاني هنا
ونبقى على تلك الحال بين نداء وجواب حتى تظهر رجلاها وقد تدلتا على جنبي الحمار الذي تركبه دون حرج
فقد كان أبي يوصيني كل يوم قبل خروجه إلى العمل بنزل” عمر الخيام” قائلا
_ ردي بالك تبعدي عالدار ما تتحركيش منها وكان سمعت صوت تخبي واسكتي حتى تجيك أمك منوبية
وكنت أكتفي بإجابتها دون أن أخطو نحوها وأنتظر وصولها ونزولها ..وما يحمله ‘الزنبيل ‘ من خيرات اقتنتها ووضعتها في جنبتيه

كانت جدتي تجلس على جلد خروف حذو” البابور ‘” موقد الطبخ القديم وتأمرني بإحضار ما يلزم للطبخ
– يانزهة هاتي البصل مالسانية
– باهي
يا نزهة هاتي الفلفل والبطاطا
– باهي
يا نزهة هاتي حكة الفلفل الاحمر
_باهي
– يا نزهة هاتي حكة الفلفل الاكحل
– باهي
يا نزهة هاتي الملح

وكنت أضع قربها كل ما تحتاجه للطبخ فتطلب مني أن أمسك طرف اللحم الذي اشترته من المرابط الجزار فأمسك معها ونقطعه وتضع القطع في القدر مع الزيت والبصل وتصب عليه قطرات من ماء زهر النارنج المقطر وتضيف بهارات …وكنت أتابعها وأحبذ مسك الملعقة الخشبية الكبيرة لأخلط ما في القدر حتى حفظت أسرار الطبخ اللذيذ
جهز الطعام فوضعت جدتي في القفة آنية بها بعض ما طبخناه وقارورة ملأتها شايا وامتطت الحمار مسرعة حتى لا يفوتها وقت الزيارة فتتمكن أمي من تناول الغداء فهي تعاف أكل المستشفى ولا تقرب وجبته الخالية من الفلفل الحار والبهارات …
ولا ترجع جدتي إلا بعد انتهاء الوقت المخصص لزيارة المرضى
رجعت فتناولنا الغداء وخرجنا إلى الساحة افترشت حصيرا واستلقت وجلست قربها
فجأة سمعنا ركضا قويا نهضت جدتي ووقفت صامتة مدهوشة أمام الرجال المسلحين ….
يتبع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى