قراءة ناقدة في نص (أمطار) للشاعر عبد الرزّاق الربيعي

أ.د . سعد محمد التميمي | ناقد عراقي

شعريّة التكرار، من الانزياح إلى المفارقة

في قصيدة (أمطار) للشاعر عبد الرزّاق الربيعي تهيمن تقنيّة التكرار بشكل ملفت للنظر، فلفظة (مطر) تتكرّر أكـثر من «90مرة» فتشكل بذلك هذه الكلمـات مـايقـارب نصف الكـلـمـات الـتي تتكون منها القصيدة، ومع ذلك لم يؤد هـذا الـتـكـرار إلـى خـلـل فـي الصـور ورتابة في الايقـاع، إذ نجح الشاعر من خلال استثمار السياق بكل مقوماته في تشكيل هذه الكلمات بحلل دلالية متنوعة ، فـفـي كـل مـرة تصـادفنا لفظة (مطر) بثوب جديد تتزخرف عليه خطوط الفكرة التي يكشفها السياق للمتلقي، وهذا مما جعل الشـاعـر يـخـتـار للقـصـيـدة عنوان (أمطار)، فالجمع هنا يفيد التنوع والاخـتـلاف في تشكلات هذه المفردة داخل القصيدة وهو مـايـجـده المتلقي عندمـا يقرأ القصيدة ، التي تتكون من عشرة مقاطع يقول في الأولين منها :
مطر دق على باب مطر
مطر يلحس اذان مطر
مطر ينهش في لحم مطر
مطر غطى مطر
مطر القى نراعيه على كتف مطر
مطر يجمع اشلاء مطر
مطر دغدغ اطراف مطر
مطر دمى مطر
فالملاحظ أن لفظة (مطر) تتكرر افقياً وعمودياُ، إذ تتكرر عمودياً من خلال تكرارها في جميع اسطر القـصـيـدة وافقيـاً مـن خـلال استخدامها في أول السطر وآخره لتـشكـل أشـبـه بالكمـاشـة التي تعـصـر المعنى وتقيده ولعل ذلك ما اراد الشاعر وياتي هذا التكرار ليـخلق المفـارقـة الـدلاليـة الـتي تتكرر بتكرار لفظة (مطر) فـفي مطلع القصيدة تاتي المفارقة من اسناد الفعل (دق) لـ (مطـر) الأولى .
وإضـافـة (باب) لـ (مطر) الثانية وبهاتين المفارقتين يتجسد المطر ليشكل أحدى صور الانسان داخل مـعـتـرك الـحـيـاة ، وبتكرار لفظة (مطر) وما تحدثه من مفارقة فـاننا نطالع صوراً أخـرى أراد الشاعر جمعها في لوحة واحـدة يقدمها للمتلقي وتتمثل هذه اللوحة بالقصيدة كاملة .
ومما نجده في هذه القصيدة وهو يمثل احدى سمات شعر الربيعي استضافة الكثير من التفاصيل اليومية والجزئية داخل القصيدة من خلال صبها في قوالب شعرية ذات دينامية عالية تكتسبها من خـلال السياق الذي جعله الشاعر يـحـفل بالـعـديد من المفـارقـات التي تثـيـر المتلقي وتجذبه فما نراه في هذه القصيدة عبارة عن صور قد نصادفها في حياتنا اليومية فلا تثير فينا هزة شعورية ومـن ثـم لا نستطيع أن نصل إلى مـا تـخـفـيـه هذه الصـور من دلالات . قد نجح الربيعي في الكشف عن هذه الدلالات بعـد أن صهر هذه التفاصيل اليومية في سياق القصيدة وشحنها بدلالات عميقة تعكس ما أحس به تجاه هذه التـفـاصيل، وكل صورة من هذه الصـور ترسم مشهداً مؤلماً مـرة أخـرى، فـعنـدمـا يسند الفـعل (ينهش) للفظة (مطر) في المقطع الأول واضافة لفظة (لحم) للفظة (مطر)، فإنه يصور صورة الانسـان الذي يسعى لافـتـراس اخـيـه وعند اضـافـة (أشـلاء) للفظة (مطر) فإنه يصور شعبا قد تشتت اشلاؤه وينتظر من يلمها وتتوالى هذه المفارقات في مقاطع القـصـيـدة الأخـرى إذ يقـول في المقطعين الثالث والرابع :
مطر هز سريراً لمطر
مطر ذاب على خد مطر
مطر مات من الضحك على ذقن مطر
مطر شم مطر
مطر سال على الإسفلت من جرح مطر
مطر امسك في شعر مطر
مطر شق طريقاً لمطر
مطر دمع في صحن مطر
مطر ضد مطر
من ومما يلفت الـنـظـر فـي هـذه القصيدة ايضا بقاء لفظة (مطر) نكرة على طـول القـصـيـدة لم يستخدمها الشاعر معرفة، وهذا أمر لايخلو من قصـد فالشاعر أراد لصـورة أن تكون مطلقة غير مقيدة بحالة معينة فضلاً عن أن ايرادها نكرة جعلها أكثر قدرة في التـاثيـر فـي المتلقـي فـضـلاً عن التنوين الـذي تـنـتـهـي بـه هـذه الكـلـمـة الذي ينبـه المتلقي، وفي هذه المفارقات يصـور الربيـعي علاقة الانسان بالانسان وعلاقة الانسـان بمحيطـه، فـتـارة يكون الانسـان مـسلوب الارادة واخـرى يكون أداة للخـراب وأخرى عـويـلاً ينوح على مـعـانـاته، وهذا مـا يصـوره الشـاعـر مـن خـلال لفظة (مطر) ، فـعنـدمـا يسند الشاعر الفعل (ذاب) للفظة (المطر) وعـند أضـافـة لفـظـة (خـد) للفظة (مطر)، فـإن لفظة (مطر) تأخـذ صـور الدمع أو الـحـزن مرة والانسان والمعـاناة مرة أخـرى وفي مفارقة أخـرى يصبح المطر دماً سفكه المعـتـدون ويصبح ايضـاً الانسـان أو الـشـعب الذي استبيح مصيره.. ومما يؤكد أن هذه الصور التي تخلقها المفارقات المتـعـددة داخل القـصـيـدة هي مشاهدات الشاعر التـي ترجمها عبر أحاسيسه مانجده في المقطع الأخير من القصيدة الذي يقول :
مطر يحلم أن يغدو مطر
مطر نام علی قبر مطر
مطر عری مطر
مطر ضيع عنوان مطر
مطر يعرض في السوق مطر
مطر عض مطر
هكذا أبصرت من زاوية في الباص الآف الصور .

فالبـاص هـنـا تـرمـز لرحلة الـشـاعـر داخـل الـحـيــاة  وقـولة (أبـصـرت من زاوية في الباص) يـؤكد بأن الشـاعـر أخـذ علـى عـاتـقـة مـراقـبـة الأحـداث وتحليلها، ولما أراد تحويلها إلى قصيدة يقدمـهـا للمتلقي كان لابد عليـه مـن تحـرير هذه التفاصيل اليـوميـة التي سماها بـ (الصـور) من سـيـاقـهـا الـواقـعـي الـيـومي المبـاشـر والبـاسـهـا حللاً شعرية تستفز المتلقي وقد نجح في ذلك من خـلال تكرار لفظة (مطر ) التي لم يستخدمها على طول القصيدة بدلالتـهـا الوضـعيـة، واخـتـلاف دلالة هذه اللفظة من مكان إلى آخر بحسب السياق الذي يستخدمه وبذلك فـقـد نجح في اسـتـثـمـار السـيـاق بكل مـقـومـاته وجـعله عـامـلاً رئيـسـيـاً في تحـويل التـفـاصـيـل اليـومـيـة إلى صـور شـعـريـة مـؤثر وذلك مـن خـلال الانحراف الذي حققه هذا السياق على مستوى الدلالة، وعلى الرغم مـن تـكـثـيـف الـتكرار في هذه القصيدة إلا أن الشاعر الربيعي استطاع أن يبعد شبح الرتابة عن القصيدة من خلال الكم الكبير من المفارقات التي تضمنتها القصيدة التي تجاوزت الـثـمـانـيـن مـفـارقة أسهمت جميعها في خلق اللحظة الشعرية المتوهجة والمتجددة على طول القصيدة .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى