سيميائية الشخصية الجمالية  في رواية (التناكي) لـ “عالية ممدوح“

أ.د مصطفى لطيف عارف| ناقد وقاص عراقي 

     لا يختلف اثنان على أهمية الشخصية بوصفها العنصر السردي الأكثر أهمية في العمل القصصي بكل أشكاله وأنماطه, ولاسيما في القص السيكولوجي الذي تستقطب فيه الشخصية الأضواء, والاهتمام كله على حساب العناصر السردية الأخرى ذلك لان العمل القصصي هو عبارة عن الأعمال التي تقوم بها تلك الشخصية, وأن النص  الذي يصور الأحداث من دون فاعلها هو أقرب إلى كينونة الخبر منه إلى كينونة الرواية وعلى الرغم من أيمان اغلب النقاد بمكانة هذا العنصر في البناء السردي إلا أنهم اختلفوا حول ماهيته وطريقة النظر إليه وأهميته ,أما النقاد والروائيون الواقعيون فقد أولوا  هذا العنصر السردي اهتماما بالغا لافتا للنظر إلى حد اعتقدوا معه أن وظيفة عناصر السرد كلها هي إضاءة هذا العنصر, والكشف عنه في العمل السردي.

   استطاعت الروائية الكبيرة عالية ممدوح تسليط الضوء على أبرز شخصية من شخصياتها الرئيسة في رواية التناكي, وهي شخصية عفاف التي تبحث عن ذاتها وتسير في الرواية كلها فنراها تقول: فتلتفت قائلة بصوت بعيد وساخر: سنرى , أستاذ معاذ أمرا لم يكن بالحسبان. كثير منا لا يبصر جيدا كلا هم عميان وعيونهم مفتوحة على اتساعها. ربما واحدة من أسباب ذهابي إلى هناك لم  تقل باريس أبدا, أريد تنظيف حواسي جميعها, فلو بقيت هنا، لعميت, واختفيت! أرادت الروائية عالية ممدوح من روايتها أن تكون مرآة للمجتمع العراقي المتطور ,والمتحضر, ورفع قيمة شخصيتها الروائية عفاف التي هي – بحسب تصورها- نسخة طبق الأصل من الساردة, أو شبيهة بالمرأة العراقية المثقفة الموجودة في الواقع, جعلت شخصيتها الروائية تختزل مميزات الطبقة الاجتماعية، كما صار اختفاء الشخصية الروائية في العمل الروائي نظيرا لاختفاء دور الفرد في المجتمع, فنراها تقول: طرب, وطوال ثمانية أعوام بقيت تسافر إليها في باريس، وحين تعود لا تؤكد ولا تنفي , وهي تقول: اسمع صميم، لا يمكن أن تتوقف القصة في المشفى ذاك أو تلك الردهة أو عيادة ذلك الطبيب اياه. فهي تدخل وتخرج إلى هناك , فالحالة ليست خطيرة, وهي ما زالت تسخر من كل شيء , كانت تضيف بنبرة حزينة: من الجائز , هي تعتقد إننا تركناها تضيع من بين أيدينا. فنحن أيضا توقفنا عن الشوق إليها والبحث عنها. هكذا عنادا , حنقا منها , وعليها. هل نحن أسباب المرض؟ كلا, كلا, لا أريد الحكم الآن. واستنادا إلى هذا الفهم فان أسماء الشخصيات التي تصادفنا في الرواية, هي نفسها في حياتنا اليومية، بل ينبغي أن يحصل التطابق حتى في الصفات الخلقية من أمثال: (عائلة أيوب آل, مكية, فتحية, سنية، فاطمة، أيوب، مختار, هلال، عفاف. صميم. كارل فالينو,طرب,معاذ الالوسي).

    أما النقد المعاصر ينظر إلى الشخصية بوصفها كائنا مصنوعا باللغة من صنع خيال المؤلف، لا وجود واقعي له خارج النص الأدبي، لان الأدب لا يوجد شيء خارج اللغة، وعليه فالشخصية في السرد- كما يرى تودوروف- هي قضية لسانية لا وجود لها خارج الكلمات، ومهما كانت درجة مطابقتها للواقع, فهي لا تعدو- كما يرى بارت- أن تكون كائنا من ورق , ونحن نختلف مع الآراء السابقة، ونقول أن شخصية عفاف في رواية التناكي شخصية حقيقة , وواقعية, وهي تعبر عن وجهة نظر الراوية العليمة, فمن خلالها عالجت الروائية الكثير من القضايا الاجتماعية والسياسية  المهمة ,وجمعت بين الماضي والحاضر من خلال المكان الأليف شارع التناكي عاشت أجمل لحظاتها القديمة, واعتمدت على ذاكرتها في استرجاع الإحداث فهي رواية تاريخية بامتياز فنراها تقول: يوم انتقلنا إلى شارع التانكي.. نعم , أنا التي قسمت اسمها إلى قسمين, فما أن ارفع راسي واراها أمامي , أعود وأناديها : عفو, نظفي المنفضة زين , يمكن تمر علينا واحدة من الخانمات والخواتين. هنا الجيران مو مثل أهل السفينة. عملت استطلاعاتي على أصحاب الشارع وأعيانه, وسجلت كل شيء في مفكرتي, يا نور عيني. وأول ما استقرت الأحوال في السكن الجديد , أمسكتها من يدها , وقلت لها : هيا, امشي نكتشف الطرق والفيلات والقصور العجيبة هنا. امشي وخزني في راسك ألوان السماء وطين الأرض ورائحة الرارنج, وهو ينفلع على الشجرة.. شمي يا عفو زين، وبعدين اجلسي ولوني وارسمي: إذا كانت الرواية لا تقوم إلا على أحداث فان الإحداث لا تجري دون شخصيات, والشخصية هي الإنسان الذي يستخدم رمزا لشخصية إنسانية, لغاية من الغايات, وشخصية كل إنسان تتألف من عناصر أساسية هي: بيئته, ومولده, ومظهره العام, وسلوكه, وطعامه, ومنامه, وحبه, وكرهه, وما شابهها, ومن منا لم يعجب, وهو يقرأ رواية التناكي على قدر من الجودة, كيف استطاعت الروائية أن تبث الروح في شخصياتها, وتمنحها خصائصها المميزة على غفلة من قرائها, بحيث لا يستطيع المرء أن يحدد بسهولة أين, ومتى منحت الشخصية صفاتها المحددة, ورسختها في الذهن, فشخصية معاذ الالوسي حقيقة, وهو صاحب مشروع المكعب الهندسي المعماري, ومن خلال الحوار بين الشخصيتين الدكتور كارل فالينو , وصميم تضيف الساردة الروح إلى شخصية معاذ فنراها تقول: ومعاذ الالوسي, صاحبي ومرشدها الهندسي, المعمار , الذي شغفت بتصميمه المبدئي لـ – المكعب – فسجلت في كلية الهندسة, ودوامت لعامين, ثم غيرت مسارها بالانتقال إلى أكاديمية الفنون الجميلة الكائنة في الوزيرية  هذا معاذ, من الجائز أفسدها حين قال لها في احد الأيام: سنصمم- المكعب- معا وندعو من نغرم بهم إليه. إن الشخصية هي بمنزلة محور تتجسد المعاني فيه والأفكار التي تحيا بالأشخاص أو تحيا بها الأشخاص وسط مجموعة القيم الإنسانية التي يظهر فيها الوعي الفردي متفاعلا مع الوعي العام في مظهر من مظاهر التفاعل بحسب ما يهدف إليه الكاتب في نظرته للقيم, والمعايير الإنسانية, والشخصيات أيضا تجسد القيم على اختلاف أنواعها في المجتمع, وتدل عليها,وتعمل على تفهمنا لها في إطار الإبداع الفني, وحديثنا عن الشخصية في العمل الروائي يجرنا إلى الحديث عن ثلاثة نشاطات في التحليل الأدبي, النشاط الأول هو أن نحاول أن نفهم طبيعتها, ونفسيتها, وخفاياها الشخصية في العمل الروائي, والنشاط الثاني أن نحاول فهم الأساليب الفنية التي تتبعها الروائية, والطرق التي تسلكها لعرض الشخصية وخلقها,وتصويرها في العمل الروائي لإقناع القارئ بحقيقتها, والنشاط الثالث هو أننا بوصفنا قراء مهتمون بمدى صدق هذه الشخصية وبمدى أيماننا بان الروائية قدمت شخصية يمكن أن نقتنع بها, ونصدق بوجودها, والنشاط الأخير يعني بالضرورة الحكم على الشخصية الروائية من خلال العمل, كوحدة متكاملة, وكيفية نجاح الروائية أو إخفاقها  في تصوير شخوصها ضمن إطار العمل الروائي, فنراها تقول: تعيش القدم في عيد القندرة المرتقب الموعود بالبهجة غير المسبوقة. وبمجرد السير في تلك المدينة الأولى وتلك الـ – عفاف- تمشي مع يونس مصدر الأسى, وطرب التي تذكرها أنها حمقاء, وهي كذا وكذا, ومعاذ الذي كان سعيدا فقط وهو يتحدث عن المكعب. فهو كان مجنونا مثلي به. صميم المنكب على أقنعته التي أتقن سجنه داخلها , فبتنا لا نعرف ملامحه الأصلية , وهلال الذي لم أراه, ولن أراه. أية مفارقة متقنة تدعنا الدنيا نخوضها, ونحن نتورط في حساب أعوام الصمت والجنون والمرض التي تسورنا, فلا ينتبه أي احد لنا , وكأننا لم نكن اصلا. وذاك العم مختار الذي كان يستيقظ ليلا, وهو يهذي بــ باسم قرية أو مدينة صغيرة عراقية تقع في شمال العراق تدعى مخمور فيكرر بينه ونفسه , أنا ولدت هناك , فماذا افعل في هذه المدينة الغدارة بنا بغداد, آه, كلهم وضعوني خارج المشهد, فوضعتهم في علاقة منقطعة النظير في لوحات زرقاء, أطلق عليها كيوم في احد الأيام بــ المرحلة الممحوة, أخذتهم جميعا , وبدأنا المشي. ومن خلال استنطاق رواية التناكي نجد الروائية عالية ممدوح تتحدث  عن  توثيقها الشخصي, لبغداد, هي الصورة الوثائقية التي أخرجتها من مكتبة عمرها, ونقلتها على الورق إن هذا النوع من الكتابات أقرب أشكال الكتابة التاريخية إلى الواقع لأنها لا تؤمن ولا للحظة واحدة بالكتابة الموضوعية, وكل من يتحدث عن الموضوعية إنما يسعى لوضع قناع عن ذاتيته في ما يكتب وما يقرر, ليست الموضوعية إلا خداع بصر وذرا للرماد في العيون, ويجب إن نخرج من هذه الكذبة الكبيرة, إذن كانت شخصية الساردة قد تحولت من الموضوعية إلى الذاتية من خلال السرد الذاتي تتجسد من خلال تحول السرد من السرد الموضوعي, إلى السرد الذاتي, وبلغة أدبية رقيقة, ورفيعة المستوى تدل دلالة واضحة على حسرة الروائية على ما أصاب العراق الجريح, وبغداد المدينة المظلومة المضطهدة ,واهم ما يميز الروائية الكبيرة عالية ممدوح في روايتها التناكي اعتمدها على تقنية الفلاش باك من خلال استرجاع ذاكرتها للإحداث السياسية, والاجتماعية التي عشتها في الستينيات في شارع التناكي  وممارسة النقد اللاذع للمحتلين, وأصحاب الدين المزيف، فضلا عن تشتت الرواية لتعطي صورة واضحة, وواقعية عن تشتت العراق, والصراعات الطائفية فيه, أكدت على بعض الشخصيات المحورية الساردة للأحداث لكي تثبت تاريخ العراق القديم, وأخيرا إدخالها معمارية المكعب في الرواية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى