الشَّافِعيّ ظاهرةٌ فريدةٌ

د. علي زين العابدين الحسيني | مصر


Painting by Antonio Guzman Capel

لا يكاد عجبي ينقضي من قوة علم وفقه وإدراك الإمام المطلبي محمد بن إدريس الشافعي، ومن ذلك أنه ألف بعض كتبه حينما دخل مصر من حفظه، فلم يرجع فيها إلى كتبه؛ لأنها لم تكن كلها معه.
تحقق الإمام الشافعي بما حفظه من العلم من أهله الموجودين مما حفظوه من العلم، فقال في كتابه الرسالة: “وغاب عني بعض كتبي، وتحققتُ بما يعرف أهل العلم مما حفظت، فاختصرتُ خوف طول الكتاب، فأتيتُ ببعض ما فيه الكفاية، دون تقصِّي العلم في كل أمره”.
يعد الشافعي ظاهرة قليلة الحدوث في الأمة، ولا زال الكثير من جوانب شخصية هذا الإمام الفريدة لم تظهر على النحو المطلوب، ولا يزال علمه يحتاج إلى إخراج مدفونه، وفي كتبه الكثيرُ من الجوانب التربوية والنقدية والتعليمية التي تحتاج إلى دراسات مستفيضة ومتعمقة في البحث والتنقيب عنها.
استوقفتني لعدة أيام مضت مقولة الإمام أحمد بن حنبل في شيخه الإمام الشافعي، ولا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا أولو الفضل، فكيف إذا كان القائل إماماً، والكلمة في حق إمام، فحينما سأله ابنه عبد الله عن كثرة حديثه عن الشافعي والدعاء له، فأجابه بقوله: ” كان الشافعي كالشمس للدنيا وكالعافية للناس، فانظر هل لهذين من عوض أو خلف؟”.
هذه الكلمة رددتها لأيام، وصاحبتني وأنا مشغول الفكر والذهن بها؛ لمحاولة الوصول إلى معناها، وفهم عمق ما فيها، وسألت نفسي: ما المزايا التي اتصف بها الشافعي وانفرد بها عن غيره حتى تقال فيه هذه الشهادة العظيمة من إمام كان يقف مع كل حرف من كلماته؟! وليس هناك أبلغ من وصف كهذا الوصف، فالشافعي شمسٌ يهتدي الناس جميعهم بنوره، ووجوده صحة وعافية للأمة بأكملها.
لستُ هنا في تعداد فضائل الرجل، أو ذكر مناقبه؛ لأن ثناء العلماء وأقوالهم فيه أكثر من أن يحصرها كتابٌ فضلاً عن مقال، لكن حينما تعلم قيمة الرجل حتى عند مخالفيه من رؤوس المخالفين في زمانه ستعلم أننا أمام شخصية نادرة الوجود، وعقلية فريدة قليلة الحدوث، وسوف تتأكد من صحة مقولتي بأنه: ظاهرة فريدة الحدوث في الأمة، حيث وصفه رأس المعتزلة في زمانه بشر المريسي بقوله: “هو رجل معه نصف عقل أهل الدُنيا”.
من خلال شغفي بقراءة ما كُتب عن الشافعي، وتتبعي لمن ترجم له وجدت أن الشافعي يمثل مرحلة تاريخية من تاريخ الأمة، فجوانب نبوغه كثيرة، وإلمامه بالعلوم والمعارف متنوع، لكني وجدت عِلمين من علوم الأمة يؤرخان بالشافعي، ولك أن تتخيل أن يؤرخ التاريخ العلومَ باسم شخص من الأشخاص.
إن فقه الحديث ونصرة السنة في مرحلة زمنية من مراحل الأمة يؤرخان بالشافعي، حيث كان كثيرٌ من علماء عصره يعجزون عن مناظرة أهل الرأي بعد ذيوعه حتى ظهر الشافعي، فبين للناس طرق فهم الكتاب والسنة، وكيفية استنباط الأحكام من الأدلة.
اشتهرت مقولة أحمد بن حنبل أيضاً في الثناء على الشافعي في هذا الأمر، ومنها يعرف أن بداية معرفتهم بفقه الحديث كانت على يد الشافعي، وأن ظهور فقه الحديث كان سببه الشافعي، فخلد التاريخ مقولة أحمد في الشافعي: “لولا الشافعي ما تعلمنا فقه الحديث”، وفي مقولة أخرى له قال: “كان الفقه مغلقاً على أهله حتى فتحه الله بالشافعي”، وهي تفيد وتؤكد أن انتشار الفقه وذيوعه كانت بفضل الشافعي.
كذلك لا يغيب عنا أن علماً مهماً من علوم المسلمين يؤرخ بالشافعي، وهو علم (أصول الفقه)، حيث كان الشافعي أولّ من دون وحرر وأصل هذا العلم، فأدرك يومها الشافعي لقوة عقله خطر النزاع الذي نشأ بين أهل الحديث وأهل الرأي، وألف كتابه الفريد (الرسالة)، وهي تعدّ من مفاخر كتب المسلمين قديماً وحديثاً.
وكتاب (الرسالة) أولّ كتابٍ في أصول الفقه دُون في الإسلام، ولا زال العلماء يؤرخون بداية أصول الفقه بهذا الكتاب، والمطالِع للرسالة يستفيد منها: تأصيل الأصول، وتقعيد القواعد، وقوة الحجة، وبلاغة القول، وعمق التفكير، ومنهجية النقد، وسلاسة الرأي، وجلالة اللغة، وتعلم الجدل، واستكشاف الطرق، وزهد القوم، ونصاعة البيان.
يكفي الشافعي فخراً أنه: (الشافعي)، ويكفيه شرفاً: أن حركة العلم وفقه الحديث ونصرة السنة تؤرخ قبله وبعده، فقبل دخوله العراق كان أكثرهم على شيء، ثم بعد دخولها صاروا شيئاً، ويكفي كتب الشافعي مكانة: كتابه (الرسالة) التي تؤرخ لعلمٍ من علوم المسلمين، حيث كانت طرق الفهم والاستنباط قبل الرسالة شيئاً، ثم أصبحت علماً مرموقاً ذا قواعد بعد رسالته.
لا أكذبُ إن قلتُ: إن الزمان لم يأت برجل عظيمٍ اجتمعت فيه المعارف مع إدراكها كالشافعي، فلم يظهر مثله في قوة التفكير، ودقة الاستنباط، ونفوذ الإدراك، وصحة النظر، وهيبة المعرفة، وإذاعة الحجج، وتفنيد الشبهات، وجمع المتعارضات، فرحمه الله عز وجل ورضي عنه، ونفعنا بعلومه في الدارين آمين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى