الأديبُ و ذائقة اللايكات

د. موج يوسف | ناقدة وأكاديمية عراقية

اللوحة للفنان الفرنسي ويليام ادولف بوغيرو (1825- 1905)

ألقى المتنبي بيتاً شعريّاً، فعاش خالداً وهذا البيت:
أنامُ ملئ جفوني عن شواردها ^^^ويسهرُ الخلق جرّاها ويختصم

لم يبالِ لقول النقّاد أو للجمهور فهو يلقي الشعر وهم يتخاصمون ، و إلى يومنا مازلنا نتداول شعره ومن سبقه أو عاصره لا لكونه الموروث أو هويّتنا، بل لأنّهم كتبوا إيماناً بالأدب ولم يفكروا بإرضاء ذائقة العامة مع أنّها كانت جوهر الحضارة ومؤثرة بالعملية الإبداعية . واليوم نعيش بعصر يمكن أن نسمّيه (ذائقة اللايكات) التي صارت هي المسؤولة عن صعود الكتّاب ونزولهم في عرش الأدب وهي أشبه باللعنة أصابت أغلب الأدباء؛ صرنا نقرأ حوراتهم وتغريداتهم بتوتير والفيس بوك يقولون إنهم يكتبون وفق ذائقة الجمهور، حتى قرأت تغريدة لإحدى الشاعرات تقول ” أشعر أن ما أكتبه لا يستهوي الذائقة فهل أتوقف عن الكتابة وتصديع رؤوس المتابعين بهذا الهراء المسمّى شعراً ” لا نقلل من شأن هذه الآراء لكن علينا مناقشتها ؛ لكونها أشبه بظاهرة عامة . لكن في البداية نسأل أين الجمهور؟ ومن ومن المقصود بعدد الإعجابات الافتراضية في مواقع التواصل الاجتماعي؟ أم القرّاء الذين ألتهموا الكتب وأصبحوا المسؤولين عن ارتفاع نسبة المبيعات لكتاب معين حتى وصلت إلى الآلاف أو المليون ؟ وكم عدد الأدباء الذين تمت ترجمة منتجهم الإبداعي إلى عشرات اللغات الأخرى فأمسى القلق يؤرقه كلّ ليل ليحرص على أن تكون كتابته وفق الذائقة؟ ولنطالع الواقع بنظرة مستعجلة بلدان الشرق الأوسط فنرى أن أغلبها تعيش بحروب داخلية وصراعات متعددة ، والثقافة والتعليم لا يزدهران الّا بجو يسوده الإستقرار السياسي والاجتماعي والرخاء الإقتصادي ، ولطالما هذه الأجواء المعتمة والفوضوية هي السائدة فهذا يعني أن الذائقة أغلبها ضعيفة عدا الإقبال الضعيف على القراءة ، إذن ما الذي يفعله مسكين الأدب ؟ هل يكتب لنفسه وينسى طلبات الجمهور؟ أم يجرّهم إلى عالمه؟ رأى أحمد الزيات بفن القول: إنًّ الفنان العبقري هو الذي يستطيع أن يغلّب صفاته الخاصة على صفات قومه العامة ؛ فيتميّز طابعه ، ويستقل أسلوبه . هذا الرأي يعدّ بوصلة للأديب أو الفنان المهموم بعدد القرّاء ، فيمكنه قيادتهم إلى مسرح الحياة الأدبي . ولنسوق أمثلة لا على سبيل الحصر ، وتقف محطة هذه السطور عند الشاعر الفرنسي بودلير وأزهار الشر ديوانه الأوّل الذي كتب شعراً ضد أمواج عصره وذائقة جمهوره وختم ديوانه يخاطب مدينته بارس قائلاً : ” إننّي استخلصت من كلّ شيء الجوهر، اعطيتني طينكِ ، فصنعتُ منكِ الذهب” ومن المعلوم أن بودلير تعرض لمحاكمة بسبب هذا الديوان ، بالمقابل قد أسس لمشروع الحداثة العالمي ، وسحب القرّاء إليه وظل أدبه خالداً ، مع نسبة المبيعات العالية والترجمات الكثيرة. وكذلك فلوبير الذي تعرض لمحاكمة بسبب روايته مدام بوفاري وبعد المحاكمة صارت الرواية الأكثر مبيعاً ، والتي تعددت ترجماتها ايضاً حتى قال لصديقته ساند في أحدى رسائله : ” الآلام التي تسري في الجسد والروح مردّها الكتابةُ ، تلك المهنة السحرية . هذا هو معنى الروح والجسد ” نلاحظ مدى عمق إيمانه بالكتابة . ولا ننسى صاحب رواية غاتسبي العظيم الذي كتب عنه الصحافي جون شتابين عام 1926 قائلاً : ” الصّورة الشعبية لصبي أشقر يؤلّف كتباً تتصدر أعلى المبيعات في لحظات غريبة تكتب عادة بين حفلات عابرة هي نوع من الهراء . فيتزجيرالد رجل خطير ويعمل بجد وهذا ما يثبتهُ ” وهذا ما يجعلنا نذكر قلق هذا الروائي بالكتّاب الناجحين ، في حوار صحفي نشر في صحيفة نيويورك بوست فسأله الصحافي ماذا حدث للفلاحين المغرمين بالتسكع الذين شغلوا روايتك ( الجانب الآخر من الفردوس ) و( غاتسبي العظيم) الرجال والنساء الذين خلدهم عصر الجاز. فقال ” أنت تعرف ما الذي حدث لهم . أصبح بعضهم وسطاء وألقوا بنفسهم من النوافذ . وأصبح آخرون مصرفيين وأطلقوا النار على أنفسهم وعدد قليل أصبحوا من بين الكتّاب الناجحين ، أرتعد وهو يقول جملته الأخيرة ( الكتّاب الناجحون) بكى وسكب لنفسه كوباً من الشراب. عمدنا إلى ذكر هذه النماذج ولا ننوي حشو المقالة بها ، بل نريد أن نبيّن جانب آخر هو أن هؤلاء الكتّاب العالمين غيّروا مسار الأدب شكلاً ومضموناً، واتسعت رقعتهم حتى شملت الكثير من بلدان ، ليسوا وحدهم بل هناك أسماء كثيرة – لا يستع لها المقال – بل حتى من الأدباء العرب الذين كانت ومازالت بصمتهم واضحة في الأدب عالجوا قضايا اجتماعية مهمة لكنهم بقوا محلقين بسماء الإبداع . وما اودّ قوله إن الذي يعيش في هاجس هل كتابتي ستحظى بحبّ الجمهور وذوقه؟ وهل تفوز بأقلام النقاد وطروحات الباحثين ؟ هذا الهاجس يعني قتل النصّ قبل ولادته، فذائقة الجمهور متغيرة بحسب العصر والمرحلة والأحداث وإذا اتربط الأدب بها لا يضمن الخلود ؛ والأدب الإبداعي خالد لا يموت .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى