ما الفرق بين قوله تعالى: (من بعد موتها) في سورة العنكبوت مع أنه ورد في القرآن كله (بعدموتها)؟

ماجد الدجاني | فلسطين

قال تعالى في سورة العنكبوت (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ {63}) وفي القرآن كله وردت (بعد موتها) بدون (من) كما في سورة البقرة (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ {164}) وسورة النحل (وَاللّهُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ {65}) وسورة فاطر (وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ {9}).

وآية سورة العنكبوت هي الموطن الوحيد الذي وردت فيه (من بعد موتها) ، واستعمال (بعد موتها) فقط يحتمل البعدية القريبة والبعيدة، أما (من بعد موتها) فهي تدلّ على أنها بعد الموت مباشرة أي تحتمل البعدية القريبة فقط دون البعيدة. وإذا استعرضنا الآيات في سورة العنكبوت قبل الآية نجد أن الإحياء كلن مباشرة بعد موتها وبدون مهلة ومجرّد العقل كان سيهديهم إلى أن الله تعالى هو القادر على إحياء الأرض من بعد موتها.

وهناك استعمالات قرآنية متعددة لهاتين اللفظتين

  • وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120) (2/ 120)
  • وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) (2/ 145)
  • وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37) (13/ 37)

القول الأول: ذكر من يفيد السرعة والمبادرة ببداية العمل والتأكيد .

الآية التي وردت من فيها سياقها مختلف عن الآيتين الأخريين فالتي فيها من جاءت في سياق تشريع خاص بتحويل القبلة اتخذه أهل الكتاب وسيلة للتشكيك والتسلل إلى قلوب ضعاف الإيمان وهو يقتضى حسما في تحديد بداية الزمن الذي يعمل فيه بهذا التشريع والضرب صفحا عن محاولات أهل الكتاب إثناء المؤمنين من الانصياع لشرع الله ومن ثم جاءت من في قوله تعالى من بعد ما جاءك من العلم لتدل على المبادرة ببداية العمل بالتشريع فور نزوله والإعراض عن أراجيف أهل الكتاب والسياق كل أطرافه وحواشيه حسم وتأكيد بالغ على تباين المواقف ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ـ ـمن الظالمين شديد كل الشدة حيث الوصف بالظلم في اتباعهم بخلاف تذييل الآيتين أخريين فهو إعلان عن التخلي عن نصرته

أما الآيتان الأخريان فهما سياق يكاد يكون واحدا هو التحذير من أتباع أهل بعدما أنزل على رسوله من العلم لأنهم سيعملون على الانحراف بدين الإسلام عن الحق ويميلون به إلى ما يرضي أهواءهم ويقرب من زيغ في عقائدهم وذلك دأبهم في كل أحوالهم وأزمانهم وليس في تشريع خاص يتطلب تحديد بداية العمل به ومن ثم كان سقوط من هو الأليق بهذا السياق

القول الثاني:من لابتداء الغاية لأنها في آية القبلة وهي أمر مؤقت معين بخلاف غيرها ، وفيها التوكيد أكثر.

قال ابن جماعة: ودخلت (من) في آية القبلة: لأنه في أمر مؤقت معين وهو: الصلاة التي نزلت الآية فيها أي: من بعد نسخ القبلة لأن (من) لابتداء الغاية، قال الكرماني: وزِيدَ معه “مِن”، التي لابتداء الغاية، لأن تقديره من الوقت الذي حال العلم فيه بالقبلة، لأن القبلة الأولى نسخت بهذه الآيات، وليس الأول مؤقتا بوقت، وختم الآية الأولى بغليظ في

قال الكرماني: وزيدت مَعَه من الَّتِي لابتداء الْغَايَة لِأَن تَقْدِيره من الْوَقْت الَّذِي جَاءَك فِيهِ الْعلم بالقبلة لِأَن الْقبْلَة الأولى نسخت بِهَذِهِ الْآيَة وَلَيْسَت الأولى مُؤَقَّتَة بِوَقْت.

وَقَالَ فِي سُورَة الرَّعْد: بعد مَا جَاءَك فَعبر بِلَفْظ مَا وَلم يزدْ من لِأَن الْعلم هُنَا هُوَ الحكم الْعَرَبِيّ أَي الْقُرْآن فَكَانَ بَعْضًا من الأول وَلم يزدْ فِيهِ من لِأَنَّهُ غير مُؤَقّت وَقَرِيب من معنى الْقبْلَة مَا فِي آل عمرَان من بعد مَا جَاءَك من الْعلم فَهَذَا جَاءَ بِلَفْظ مَا وزيدت فِيهِ من

قال في بصائر ذوي التمييز:

وزيدت معه (من) الَّتي لابتداءِ الْغاية؛ لأَن تقديره: من الوقت الذى جاءَك فيه الْعلم بالْقبلة؛ لأَن الْقبلة الأُولى نُسِخت بهذه الآية، وليس الأَوّل موقَّتاً بوقت. وقال فى سورة الرّعد: بَعْدَ مَا جَاءَكَ فعَبَّر بلفظ (ما) ولم يزد (من) لأَن الْعلم هاهنا هو الْحكم الْعربي أَي الْقرآن، وكان بعضاً من الأَوّل، ولم يزد فيه (من) لأَنه غير موقَّت. وقريب من معنى الْقبلة ما فى آل عمران مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم فلهذا جاءَ بلفظ (ما) وزيد فيه (من)

قال أبو جعفر بن الزبير في ملاك التأويل: ولما ذكر بعد هذه الآية من مرتكبات أهل الكتاب وعنادهم ما بسطته الآي بعد وجاء قوله بعد: “ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين ” بعد إطناب زائد وتعريف بأكثر مما تقدم وردت الآية المتكررة مراعى فيها ذلك فجئ فيها بـ “من ” التي للغاية أو لابتدائها والمقصود أوفى وأمعن، وجيء بـ “ما ” عوضا من الذي لأنها هنا بسياقها بعد (من) كيف ما قدرتها من موصولية أو موصوفية تعطي الاستيفاء وتقتضيه فروعي هنا معناها وروعي فيما تقدم لفظها وقوله سبحانه: “إنك إذا لمن الظالمين ” يتضمن من أشد مما يتضمن نفى الولي والواقي والنصير ألا ترى قوله تعالى: “والظالمون ما لهم من الله من ولى ولا نصير “.

فقد انتفى هنا الولي والنصير مع زيادة الوصف بالظلم وليس نفى الظلم حاصلا من انتفاء الولاية والنصرة حصوله بالذكر والتنصيص فهذه الآية أبلغ من الآيتين فناسب ذلك زيادة الاطناب فيما قبلها ولشدة موقعها قدم الله لنبيه تنزيهه عن اتباع أهواءهم فقال: “وما أنت بتابع قبلتهم “، فقد وضح افتراق المقاصد في إفراد هذه الآي على الانحاء الثلاثة.

قال الإسكافي في درة التنزيل: فإن قال قائل: فكيف خص ما في القبلة بلفظة من فقال: (.. من بعد ما جاءك من العلم..) البقرة: 145 ولم يكن ذلك في قوله: (.. بعد الذي جاءك من العلم..) وهل لاختصاص هذا المكان بـ( من) فائدة تخصه دون المكانين الآخرين؟ قلت: هنا فائدة تقتضي من وليست في الآيتين الأخيرتين، وهي: أن أمر القبلة مخصوص بفرائض مضيقة وأوقات مخصوصة لها في اليوم وفي الليلة مؤقتة، فخص بمن التي هي لابتداء الغاية، والقبلة شرع كان يجوز نسخه كما نسخ ما هو مثله، فكأنه قال هناك: (.. ولئن اتبعت أهواءهم..) من الوقت الذي جاءك العلم فيه بالقبلة التي وليتها، وأمرت بالتوجه نحوها صوت من الظالمين.

فلما تخصص بوقت مضيق محدود لم يكن بد في المعنى من العلم بالوقت الذي نقل فيه عن القبلة الأولى إلى غيرها، وليس كذلك ما بعد قوله: (..قل إن هدى الله هو الهدى..) لأن العلم الذي وقع التوعد معه على اتباع أهواء أهل الكتاب لم يتخصص وجوب العلم به بوقت دون وقت إذ كان واجبا في الأوقات كلها، ولم يكن مما يجوز أن ينسخ لأنه علم بالإيمان، وصحة الإسلام، وبطلان الشرك والكفر، فلما لم يتخصص وجوبه بوقت دون آخر لم يحتج معه إلى لفظة من التي هي للحد وابتداء الغاية.

وكذلك الآية في سورة الرعد، لما كان العلم المانع من اتباع أهواءهم علما بأن جميع ما أنزل الله تعالى حق، وأن قول الأحزاب الذين ينكرون بعضه باطل، كان هذا أيضا من العلوم التي لا يتخصص الفرض فيها بوقت يجب حده بزمان بل هو واجب في الأوقات كلها، فلم يكن لدخول من في الآيتين مقتض كما كان له في الآية المتوسطة. ومما يبين لك الأغراض التي أشرت إليها في الآي الثلاث، وأنها تجوز أن تكون مقصودة والله أعلم: ما اقترن من الوعيد بكل واحدة منها، فالموضع الذي منعه بعلمه من اتباع أهوائهم في قوله: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم) البقرة: 120، هو منع من الأعظم الذي هو الكفر، فكان الوعيد عليه أغلظ، وهو قوله: (.. مالك من الله من ولي ولا نصير) البقرة: 120.

والآية الأخيرة أيضا، لما كان العلم بها مانعا من العمل بشطر من الدين، وترك شطر منه، كان مثل الأول في استحقاق الوعيد، وكان مثله في الغلظة، وهو قوله: (.. مالك من الله من ولي ولا واق) الرعد: 37.وأما اتباع أهوائهم في أمر القبلة، فلأنه مما يجوز نسخه، فكان الوعيد عليه أخف من الوعيد على ما هو الدين كله أو بعضه مما لا يجوز تبديله وتغييره، فصار الوعيد المقارن له دون الوعيد المقرون في الموضعين الآخرين، وهو قوله تعالى: (ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إن إذا لمن الظالمين) البقرة: 145 أي إن فعلت ذلك وضعت الشيء غير موضعه ونقصت الدين حقه فهذا الكلام في الفرق بين المواضع الثلاثة.

قال السمين الحلبي: وجاء في هذا المكان مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ وقال قبلَ هذا : بَعْدَ الَّذِي جَآءَكَ [ البقرة : 120 ] وفي الرعدَ : بَعْدَ مَا جَآءَكَ [ الرعد : 37 ] فلم يأتِ ب ” من ” الجارةِ إلاَّ هنا ، واختصَّ موضعاً ب ” الذي ” ، وموضِعَيْنِ ب ” ما ” ، فما الحكمةُ في ذلك ؟ والجوابُ م ا ذَكَرَه بعضُهم ـ ـ قال ” وأما دخولُ ” مِنْ ” ففائدتُه ظاهرةٌ وهي بيانُ أولِ الوقتِ الذي وَجَبَ أن يخالِفَ أهلَ الكتابِ فيقِبْلَتِهم ، والذي يقال في هذا : إنَّه من بابِ التنوعِ في البلاغة .

قال البقاعي: قال الحرالي : ـ ـ وجاءت فيه ” من ” التي هي لابتداء من أولية لخفاء مبدأ أمر ما جاء من العلم هنا وظهور ذلك الأول ، لأن ذلك كان في أمر الملة التي مأخذها العقل ، وهذه في أمر التوجيه الذي مأخذه الدين والغيب ، قال الحرالي : قال تعالى : إنك إذاً لمن الظالمين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى