أيام ربيع الأول

د. علي زين العابدين الحسيني


مِن صور الطفولة التي لا تزال عالقة بذاكرتي صورة جماعة من أبرز رجال التربية والتعليم آنذاك يجتمعون في بيت والدي كلّ خميس لقراءة بعض الأوراد، وسماع قصائد المديح النبوي، فإذا ما دخلت ذكرى المولد النبويّ الشريف تحولت الجلسة الأسبوعية إلى يومية.
هي إحدى الصور التي محتها الأفكار المشوهة أو تغير النظام الاجتماعي، والتي كان يجتمع فيها الصغار مع كبارهم بصفةٍ مستمرة، وأياً كان سبب التغير فأرى من الواجب استحضار ذكرها لا سيما هذه الأيام.
يحضر الجمع بعد أداء صلاة العشاء في المسجد المجاور، فيبدأون ليلتهم بقراءة ما تيسر من القرآن الكريم، وقد يقرأون سوراً كاملة؛ كالملك والدخان والواقعة، ثم تليها قراءة أذكار وأدعية نبوية إلى أن يأتي دور قراءة أوراد، فتوزع كتب صغيرة لا سيما على من يحضر لأول مرة، أو لمن لا يحفظها كاملة، وأغلب ما فيها أدعيةٌ وأذكارٌ من السنة النبوية الشريفة، لا تخرج عن ذلك.
لا أزال أشعر بصدق هؤلاء في محبتهم للنبي صلى الله عليه وسم!
هكذا يقضون موهناً من ليلتهم في الاستذكار والقراءة، فإذا فرغوا من ذلك تحدثوا فيما بينهم في الأمور العامة إلى أن يأتي الأطفال بصواني الخبز والحلوى، فينشغل الجميع بأكل هذه الأشياء الخفيفة، وإذا ما رفعت صواني الخبز وضعت القهوة والشاي والقرفة، فيأخذ كل شخص ما يشتهيه، كل حسب ميوله ورغبته، لا إكراه عندهم في أكلٍ أو شربٍ.
رأيت -وأنا صغير- أهل قريتي يستقبلون شهر ربيع الأول وسائر المواسم الدينية فرحين مستبشرين، كان معلموها يستغلون هذه المواسم لغرس المحبة وصدق الحب لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتفيض مواسم الطاعات البهجة في النفوس، وتجدد فيها صدق الانتماء، هي فرصٌ عندهم ربما لا يجود الزمان بمثلها لزيادة الوعي الدينيّ، كما أنها تُسفر بقوة الارتباط.
تلك وصف هذه الجلسات رسمتها لك دون زيادة كلمات أو عبارات لتحسينها.
وفي هذه الأيام تشرق الشمس على القرية، وأغلب ما فيها من عادات صار في طيّ النسيان، لم يبق في أهلها إلا بقية باقية يحاولون الحفاظ ما استطاعوا على ما كانوا عليه وسط عادات اجتماعية جديدة، فلا البركة حاصلة كهذه البركة السابقة، ولا الوجوه منيرة كهذه الوجوه التي كنا ننظر إليها، ولا النور أصبح باهراً كما كان يظهر، ولا التفاف الصغار حول الكبار أصبح مألوفاً كما في سابق عهده.
أجل، لم يعد لهذه الجلسات رواج كما كان، ولعل ذلك يرجع لسببين: أولهما: أن الأفكار الدخيلة خطفت عقول كثيرين من زمن بعيد، فعمّ الخبر وانتشر القول بأنها بدعة محدثة لا أصل لها، وأن أصحابها مبتدعون يحرم القرب منهم، والآخر: ما هو معروف من التغير الاجتماعي، وتجدد وسائل الاتصال الحديثة، تلك التي أورثت لنا تربية جديدة جعلت الشباب والأطفال في منأى عن كل ذلك.
فبالله ربك!
أوجود هذه المجالس بهذه الصورة أحفظ لأوقات الشباب، وأبعد لهم عن التيارات المختلفة والأفكار الهدامة، أم هذه الصورة التي نراها اليوم من ابتعاد غالبهم عن غشيان هذه المجالس، واصطفافهم في مواقع الفتن أو أماكن المجون؟!
في كلّ حالٍ أنت الحكمُ بعد ذلك عنها وعن غيرها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى