التخلّق.. فوق الجينات ومتلازمة ما بعد كورونا Epigenetics and post covid syndrome

د. أيمن يوسف | اخصائي متلازمات الفيبروميالجيا وال “إم إي”

لم يكن الإنجاز العلمي الهائل مطلع الالفية باكتشاف خارطة الجينيوم البشري بانجاز كاف من أجل تفسير بعد الظواهر البيولوجية والطبية والنفسية والسلوكية بعد ان كان الامل في ذلك كبيرا سواء على مستوى الكشف عن الامراض او علاجها او الوقاية منها، وبات ثمة لغز حائر يدور حول بعض الانماط الظاهرة والتي لا تعبر عن مستوى التعبير الجيني المكتشف لدى الافراد، فكيف على سبيل المثال لا تستجيب بعض التوائم المتطابقة- والتي تمتلك نفس التسلسل الجيني- لذات المثيرات البيئة أو الاجتماعية أو البيولوجية فتظهر صفة مرضية او اصابة في عمر معين لدى احداها، او تظهر صفة سلوكية او شخصية او اخلاقية لدى احدهم قد لا تظهر على الاخر بالرغم من التطابق الجيني الذي بدى في السلسلة الجينية أو في التعبير الظاهر لها بتطابق لون الشعر والعيون والبشرة وشكل العظام ونمط الحركة… الخ.
لقد دفع الجهد البحثي بهذا الخصوص الى نشوء حقل علمي جديد يعبر عن هذا النمط عرف بعلم التخلق او علم ما فوق الجينات Epigenetics، وعبرت بعض الدراسات الاكاديمية عنه خاصة في الولايات المتحدة بعلم التخلق المتعاقب اوالمتوالي، فما فوق الجينية هو تعبير عن تغير النمط الوراثي الظاهري الذي ينشأ نتيجة عوامل بيئية وتفاعلات الجسد البشري مع النظام الايكولوجي عامة دون ان يعبر او يتدخل في سلسلة ال DNA والحمض النووي او الريبوزي، او بعبارة اخرى يمكننا التعبير عن التخلق وفوق الجينية بانها معلومات على هامش الحمض النووي لا تؤثر في تركيب او ترتيب الجينات ولكنها تؤثر في النمط الظاهري لها، وذلك استجابة لعوامل البيئة من عدوى او اصابة او مرض، او استجابة لضغوطات عصبية ونفسية واسرية واجتماعية محيطة، او استجابة لنمط التغذية والنوم والرياضة والتدخين ومناخ العمل والثقافة السائدة… الخ.
وبهذا تشكل ما فوق الجينية الارشادات العامة التي سوف تتعامل من خلالها الخلية على مستوى تخليق البروتين على سبيل المثال لمعالجة الجزء المحدد بها من الحمض النووي او تنشيط وتثبيط الانزيمات التي تدفع نحو ارتباط القواعد النيتروجينية او مجموعات الميثيل او الهيستونات وما الى نحو ذلك، ما شكل مجالا متطورا ومفسرا لنمط ظهور الامراض والوقاية منها وعلاجها وفقا للنمط فوق الجيني لكل شخص، الامر الذي فتح امالا اوسع لعلاج ما كان ميئوسا منه لدى البعض او للتنبؤ بمآلات مرضية او نفسية او سلوكية لمن مروا بصدمات مرضية كبرى او عدوى او صدمات في العلاقات الانسانية والاجتماعية والاسرية والمهنية.
وتظل جائحة كورونا منذ نهايات عام 2019 وحتى الان هي ازمة العالم الاولى في ظل حالة من عدم اليقين حول شكل ونط وسلوك الفيروس نفسه، وحول مستقبل الاثار التي سوف يتركها على المتعافين ومستقبل الطاقة البشرية التي نجت منه بعد الاصابة، وقد سجلت العديد من الحالات وعبرت عن اثار عميقة على مستويين رئيسيين هما الجهاز التنفسي والجهاز العصبي، فعلى الرغم من ان فيروس كورونا يعد احد الفيروسات التنفسية التي تصيب الرئة والجهاز التنفسي؛ الا ان شكوى عظيمة بدت تطول الجهاز العصبي وتطول العضلات من اعراض لالم مزمن ووهن عصبي وعضلي وتراجع في اداء الذاكرة قصيرة المدى وتشتت للانتباه وتراجع للوظائف المعرفية وانماط النوم واليقظة علاوة الى الاعراض المعروفة والمتكررة من ظهور بؤر تجلطات وتليفات في بعض مناطق الرئة وتأخر استعادة حاستي الشم والتذوق.. الخ، وهذا يقودنا الى ما اسلفنا والى دور التخلق وما فوق الجينية التي قد تحل الغازا واسعة من تلك الاعراض وتقودنا الي رعاية صحية نموذجية على ثلاثة مستويات الاولى تأطير شكل الوقاية من الاصابة بالعدوى وفقا لنمط الافراد وسلوكياتهم الشخصية اليومية وبحسب خصوصية كل فرد وظروفه، والثانية مواجهة العدوى عند الاصابة ببروتوكول موجه بجانب البرتوكولات التقليدية المتبعة في علاج المصابين بالشكل الذي يضمن فرصا اكبر للتعافي والشفاء وفقا للخصوصية البيولوجية فوق الجينية للمصابين، والثالث بناء نمط التجاوز بعد الاصابة من الاثار التي قد تتركتها زيارة الفيروس على الجسد ومستويات التلف التي قد يخلفها ما قد يؤثر على مستقبل الطاقة البشرية في ظل مخاوف متصاعدة من نمو اجيال قد تعاني من وهن وانماط سلوكية وذهنية مغايرة ومختلفة بجانب انخفاض للطاقة الانتاجية اذا لم يتم النظر والاهتمام بمتلازمة ما بعد كورونا واعراضها المتفاقمة لدى البعض نتيجة العدوى من جانب ونتيحة طباعة موروثات جينية قد تنتقل الى اجيال متعاقبة من جانب اخر.
ان علم ما فوق الجينات وعلم التخلق قد يكون مجالا خصبيا ومستقبليا في بناء عالم ما بعد كورونا، وقد يكون مجالا مفسرا لادراك الاعراض التي اصابت بعض المتعافين من عدوى كوفيد19، وقد يكون املا لمن عانى من متلازمة ما بعد كورونا post covid syndrome، وتظل الدعوة مفتوحة لكل من يعمل في المجال البحثي والعلمي والطبي بان يهتم بتقديم المشورة العلمية والطبية بعد الاصابة بكورونا مثلما كان الاهتمام بها اثناء الاصابة، وان يكون هذا الي الاهتمام موجه للاجهزة الحيوية عامة وللجهاز العصبي المركزي خاصة والذي يختزن الكثير من الاثار المترتبة عن الاصابة ويترجمها في صورة متلازمة عصبية عقب عدوى تنفسية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى