خيمة عن خيمة تفرق

سميح محسن | فلسطين

“خيمة عن خيمة تفرق”. هذه الجملة أوردها الكاتب الشهيد غسان كنفاني على لسان “أم سعد” التي حملت روايته الشهيرة اسمها، وحملت من المعاني ما حملته. “خيمة عن خيمة تفرق”؛ و”ساحة عن ساحة تفرق” أيضاً، عطفاً على ما قاله كاتبنا الفذّ كنفاني.

عندما كنّا في مرحلة الصبا، كان أهلنا “يرغموننا” على الذهاب في يوم محَدّد من كل شهر إلى قرية برقة لاستلام حصة العائلة “المؤن” التي كانت توزعها وكالة الغوث على اللاجئين الفلسطينيين، وكانت برقة آنذاك المكان المخَصّص لقرى شمال غرب نابلس (برقة، بزاريا، سبسطية، الناقورة، إجنسنيا، نصف إجبيل، بيت إمرين، وياصيد) لاستلام “المؤن”. عندما قلت “يرغموننا” فإنّ هذا الفعل كان يحمل في داخلنا معنى من معاني الخجل، وقد يكون مرتبطاً باللاوعي بمفهوم “التسول”.

في ساعات الصباح الباكر كنّا نتجمع في ساحة تقع على المدخل الغربي للقرية ننتظر وصول الشاحنة ذات اللون الأزرق. وعند وصولها يترجل منها عدد من العاملين في الوكالة، ويشرعون بإنزال حمولتها، ثم يقومون بنصب خيمة كبيرة، ويوزعون طاولات خشبية بشكل منظم داخلها، ثم يرتبون أكياس الطحين والأرز والعدس وكراتين الصابون، وبراميل زيت “الكوكز”، ويبدأون بتوزيع الحصص المقررة لكل عائلة وفق عدد أفرادها المسجلين في بطاقة اللاجئين الزرقاء. لم يكن عاملو الوكالة لطيفين معنا، بل كانوا يعاملوننا بغلاظة قلب، واستعلاء، ولعلّ هذه المعاملة، عزّزت في دواخلنا ذلك الشعور “التسوّل” أيضاً.

هذه الصورة يبدو لي أنّها عصيّة على النسيان. في العام الدراسي (1973 – 1974) انتقلت إلى مدرسة برقة الثانوية للالتحاق بالصف الثالث الثانوي (التوجيهي)، وكانت المدرسة، ولا تزال، قريبة من الساحة، وكلما مررت منها كانت تلك الصورة تترسخ في الذاكرة يوماً بعد يوم.

عند اندلاع الانتفاضة الأولى كنت أعمل محررا ثقافياً في صحفية “الرأي العام” الكويتية، وفي أوقات دوامي في الصحيفة كنت أقضي معظم وقتي في الغرفة المخصّصة لأجهزة استقبال الأخبار من وكالات الأنباء، وهي شبيهة بأجهزة “التلكس” لمتابعة أي جديد من فعاليات الانتفاضة التي طغت على كل الأخبار. وفي أحد الأيام ورد خبر بأنّ أحد قادة الانتفاضة في قرية برقة أعلن القرية جمهورية مستقلة.

“سامي دغلس”! مَن هو؟! عادت بي الذاكرة إلى قرية برقة وإلى قريتي “الناقورة”. هذا الاسم ليس غريباً عليّ. سامي يصغرني سنّا، وشقيقه الأكبر “محمد” كان ابن صفّي في مدرسة برقة الثانوية، أهو سامي الذي أعرف عائلته حيث ترتبط عائلتانا برابط مصاهرة، وكان والده وجدي، رحمهما الله، تربطهما علاقة صداقة.

في هذه الأيام عادت برقة إلى صدارة الأخبار انعكاساً لصدارة الفعل. كما أنني عدت إلى برقة للمشاركة مع أهلي فيها ببعض الفعاليات، وعادت الذاكرة تلملم صور الماضي.

في يوم السبت الماضي (8/1/2022) تشرفت أن أكون بين الأهل في برقة باستقبال وفد من الرفاق والأخوة من الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، وقبلها بأيام باستقبال أعضاء القائمة المشتركة الذين جاءوا إلى برقة للتأكيد على وحدة الوطن والشعب والقضية والماضي والحاضر والمستقبل. وقبل ذلك بأيام وأيام في فعاليات التصدي للمستوطنين الذين استهدفوا القرية بمساندة جيش الاحتلال.

في زيارتيّ أهلنا من الداخل (الجبهة والمشتركة) “تبارى” عدد من أعضاء القائمة المشتركة على إظهار علاقتهم بالقرية، وبطريقة محبّبة. وخلال زيارة الرفاق والأخوة من (الجبهة) عرفت أنّ أصول عدد منهم تعود إلى برقة، ومن باب تأكيد العلاقة قادنا الرفيق رائد نصر الله Raed Nasrallahإلى أطلال بيت جدّه، والذي ولد تحت سقفه والده، للتأكيد على هذه العلاقة. كما وتحدث آخرون عن أراضيهم التي ورثوها من الآباء والأجداد، فقلت مازحاً: “أتريدون القول بأن أصل كل أهل فلسطين من برقة؟!”. هذا الاعتزاز بالجذور مفخرة لنا كفلسطينيين، ورسالة للطارئين في هذه البلاد الذي حاولوا كيّ وعينا وفشلوا، وسيفشلون.

كنا (الرفيق ضرار أبو عمر، Derar Abuomar سامي دغلس، Sami Daglas وأنا) في تلك الساحة، وحدثتهما على ذكريات الصبا فيها مع خيمة وكالة الغوث. لقد تحولت الساحة اليوم إلى ساحة مواجهات بطولية مع الاحتلال. كما وتحولت الذكرى إلى ساحة للتذكير بشهداء القرية الذين قضوا مدافعين عن فلسطين منذ ما يقارب القرن من الزمن. لقد تحولت تلك الساحة من ساحة لتوزيع “المؤن” على اللاجئين إلى ساحة لتخليد ذكرى شهداء القرية.

“خيمة عن خيمة تفرق” كما قال الشهيد غسان كنفاني على لسان “أم سعد”، و”ساحة عن ساحة تفرق” كما يقول أهلنا في برقة التي تصنع تاريخها تاريخنا بجدارة وصلابة وعناد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى