قواعد ابن خلدون في تفسير التاريخ

إسلام إسماعيل أبوزيد | دكتوراه في التاريخ والحضارة

لا ريب أن ابن خلدون أتخذ منهجًا جديدًا يختلف عمَّن سبقه من المؤرخين الذين كانوا يعتمدون نظام الوقائع التاريخية وَفْقَ ترتيب السنوات،وعلاقتها بالأحداث التاريخية،واستطاع أن يتخطَّاه إلى طريقة أكثر ترتيبًا وتنظيمًا،من خلال تقسيم مؤلَّفِه في التاريخ (العِبَر)على هيئة كتب،وكل كتاب قسَّمه إلى فصول متصلة فيما بينها في تناول الأحداث،وتتناول تاريخَ كل دولة على حدةٍ،مع مراعاة نقاط التواصل والتداخل بين الدول والأحداث التاريخية التي تحدث في نفس الزمن.

 فتميَّز بهذا المنهج على مَن سبقوه مِن المؤرخين،ببراعة التنظيم،وحسن الربط بين الأحداث،وتفرَّد بالدقة والوضوح في تبويبِ الموضوعات والأحداث التي يتناولها بالدراسة والبحث.

نجح ابن خلدون أن يتخطَّى الأساليبَ السائدة في عصره مِن جمود وتقليدٍ،بالعودة إلى المنابع الأصلية،وحسن الاتصال،والاعتماد على القيم والأفكار النابعة من القرآن الكريم والسُّنة النبوية،واستفاد إفادة واسعة باطِّلاعه على كتب الرحَّالة والجغرافيين العرب،التي وفَّرت له معلوماتٍ غزيرة كافية،ساعدَتْه على تعزيز كتاباته وإعطائها مصداقيةً وقيمة زائدة،

لقد أدرك ابن خلدون الكثير من قواعد تفسير التاريخ،وقد ظهر ذلك من خلال القراءة التحليلية لمقدمته,وقد تمثلت في:

 القاعدة الأولي :  التاريخ علم،لا يقل عن بقية العلوم الكونية،حتى إن عجزْنا عن اكتشاف كثيرٍ من مفاتيح القوانين التاريخية؛نظرًا لأن الظواهر الاجتماعية أعقدُ من الظواهر الطبيعية.

  القاعدة الثانية :  قوانين السببية لا تتناقض مع قدره الله في التاريخ؛إذ إن هذه الأسباب المادية هي وسائلُ الله،وهي جنوده وتعليماته الصارمة،بل هي الجِبلَّة التي فطر اللهُ الأشياء عليها،وهداها لتحقيق مشيئته من خلالها.

وتبقي المعجزات لتكشف بين الحين والحين عن يدِ الله الخفية القادرة،التي تبطل الوسائل،وتغيِّر التعليمات،في حالات استثنائية،ولظروف طارئة!

بل إن إرادة الله تعطي الوسائلَ والأسباب عنصرَ الفاعلية والإيجابية والبقاء،وتزوِّدها بإمكانيات رصد المستقبل – في حدود – واكتشاف بعض الآفاق الضرورية لنمو الحياة ورقيِّها؛تحقيقًا لقوله -تعالى-: ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ﴾ (فصلت: 53)، واكتشاف الأسباب وتسخيرها هو هذه الآيات.

القاعدة الثالثة:الفوارق في النسبة بين العلوم الطبيعية،وبين قوانين الحركة التاريخية؛فهذه العلوم الطبيعية ذات “القوانين العلمية الثابتة” تتعرض كذلك لتحولات نسبية وتغيرات – بل وتناقضات – لا تقلُّ عن النسبية والتحول في العلوم الإنسانية.

لقد كان مؤرخناً العظيم عبدا لرحمن بن خلدون يمتلك رؤية إسلامية واضحة في تفسير التاريخ،ولم يجد أي تناقض بين الأسباب وإرادة الله،وبين الأسباب ونسبية الاطراد، وبين العلم والفن،وبين القوانين السببية والمعجزات الإلهية!

بل إنه كان أسبق في معرفة أن الفواصل بين القوانين الطبيعية والاجتماعية ليست كبيرة؛لأنها تتحرك بإرادة واحدة،وتخضع لمشيئة واحدة،وتهدف لغايات واحدة.

القاعدة الرابعة :الشمولية العالمية في النظرة إلى التاريخ،أو حسب تعبير بعضهم “النظرة الكلية”: فالتاريخ المحلي أو النظرة الجزئية المحدودة لا يمكن أن تشكل أساسًا لتفسير التاريخ،ولا ينتظر أن يستقرئ كلُّ مفسر للتاريخ سائرَ الأمثلة التي تقدِّمها الوقائع التاريخية في سائر الحضارات؛فذلك عمل – وإن كان هدفا مثاليًّا – إلا أن تطبيقه من الصعوبة بمكان كبير،وحسْبُ مفسِّر التاريخ أن يقدِّمَ شرائح من حضارات مختلفة،بحيث تكون نتائجها المستخلفة صالحةً للتكرار والتعميم.

 القاعدة الخامسة : العِلِّية, فلا تفسير بدون تعليل،ولن تتحقق العبر واستخلاص السنن والقوانين بدون هذه العِلِّية،وأي فلسفة في أي علم من العلوم لا بد أن تعتمد على التعليل،وهذا من الفروق الأساس بين المنهج التاريخي التقليدي،والمنهج الحضاري أو منهج تفسير التاريخ.

والتعليل – أيضًا – يكون قابلاً للتَّكرار في أطرٍ حضارية أخرى،ولا بد أن يكون عامًّا شأن سائر القوانين،وأما التعليل الجزئي الذي يشبه الحكمة الخاطفة،فإنه لا يرقى إلى التعليل المطلوب لتفسير التاريخ.

والتعليل التاريخي الذي يعتمده مفسرُ التاريخ ليس تعليلاً جزئيًّا ,وليس تعليلاً خارجيًّا،بل هو تعليل باطني, مستقًى من الرؤية الشاملة الفلسفية لِما يقبع خلف الوقائع الظاهرة،إنه نظر إلى الواقعة من داخلها،ومن نقطة الإحاطة بكل جوانبها،ومِن رَبْطها بإطارها العام.

 القاعدة السادسة:الفكر,  فإذا كان المؤرخ مجرد مسجِّل للحدث،باحثٍ عن الطريق الصحيحة لإثباته،فإن مفسِّر التاريخ يحتاج إلى عمليات فكرية معقَّدة في محاولة لجمع جزئيات الماضي،ولاستحضاره من حاضره؛عن طريق بنائه بناءً تركيبيًّا، ولاستخلاص أسباب اتجاهه للإيجاب أو السلب،فالجانب المعرفي والفكري أساسٌ لمفسر التاريخ.

 القاعدة السابعة:الحركة أو “الديناميكية”: المفسر للتاريخ يقدِّم لنا صورة تبدو وكأنها إعادةٌ حية “متحركة” للواقع،حتى نحس بطبيعة العوامل التي تقف خلف الأحداث؛ولهذا يلجأ فيلسوف التاريخ لرصد كل العوامل النفسية و”البيولوجية” والفكرية والعَقدية والاقتصادية،ويربط بينها،ويعطي لكل عامل حجمَه في مرحلته التاريخية,فيقدم لنا التاريخ أقربَ إلى السكونية الجامدة،التي تعطينا جانبًا معروفًا منظورًا،ولا تحرِّك فينا جوانبَ الاستحضار والتفاعل والبصر بالعوامل الباطنية.

وصفوة القول ، فإن ابن خلدون يحتل مكانة كبيرة في ريادة علم “تفسير التاريخ” على أساس موضوعي بحت،يتمثل في أن مقدمته  وما تلاها من أجزاء كتابه “العبر” – يُعدَّانِ بحقٍّ المحاولةَ الأولى لإعطاء تاريخٍ عالمي معلل،كما يُعَدَّان النظرية المتكاملة الأولى في التاريخ الإنساني لتفسير التاريخ,كما نستطيع أن نتحقَّقَ من وجود هذه القواعد التي تجعله مفسِّرًا للتاريخ!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى