ملامح عبثية الوجود في السرد التاريخي في رواية “دروز بلغراد” لـ”ربيع جابر”

أجدور عبد اللطيف

تتهادى إلى الذهن من خلال العنوان بداية الأمر، أن الكتاب تاريخي وربما دراسة ما، لكن مدعى التساؤل الحقيقي هو علاقة الاضافة غير السوية بين “دروز” و “بلغراد”، الدروز نسبة للدرزية وهي طائفة دينية تنتسب إلى الاسلام وإن كانت تختلف عنه في الطقوس وبعض أساسيات العقيدة، كإيمانهم بتناسخ الأرواح .. تتواجد هذه الاقلية جغرافيا في سوريا لبنان وهو ما يحيل إليه كذلك لفظ ” حنا” المنتمي لعنوان الرواية أيضا .. أما بلغراد فهي عاصمة صربيا حاليا، والتي كانت جزءا من الامبراطورية العثمانية، شأنها شأن لبنان وسوريا، وهنا نكون وجدنا طرف الخيط الاول، اما الطرف الثاني فهو أن بلبنان مسيحيين عرب، وهو ما يفترض أن يكون عليه حنا يعقوب.

تتطرق الرواية الفائزة بالبوكر، لحقبة زمنية عميقة وخصبة من ماضي هذه المنطقة العربية، والتي تحاشت الكثير من الاعمال الخوض فيه، أو أنها تخوض فيه بكثير من التهجم والعداء، لأن هذا التاريخ الزاخر ينافي بزعمهم مقتضيات القومية العربية المبجلة ! بيد أنربيع جابر قطع مع هذه المنظورات المفرطة في عناصر هوية وتاريخ ما تزال امتداداتها بيننا حتى الآن، لذا فقد صور في هذه المقاربة الأدبية، ما كان عليه الحال في دمشق وبيروت وإسطنبول والبوسنة وبلغراد وصوفيا ومقدونيا، من ازدهار وتلاقح ثقافي زاخر، تحت لواء الدولة العثمانية، ومحسوم أن الصفحة لم تكن ناصعة تماما، وكان لا بد من حرب ومحنة وعذاب ومقاومة، فقد أرخ الكتاب للصراعات الدائرة في منطقة البلقان، والتي تقاطعت فيها جل أحداث الرواية بين أطراف متعددة ذوات مصالح متدافعة بشكل مربك، العثمانيون والانجليز والفرنسيون والايطاليون والصرب، والارمين … رحلة الدروز إلى بلغراد كانت نتاج صفقة بين العثمانيين والصرب، يرحل بموجبها هؤلاء المقاتلون أسرى ! فقد ضحى الترك بأقلية مضطهدة في سبيل هدنة لحظية، في خضم ثورات بلاد البلقان على الحكم العثماني آنذاك .

حظ حنا يعقوب المسيحي اللبناني من القصة كلها، هو أن التواجد في المكان غير المناسب في الزمن غير المناسب، يمكن أن يغير من مسار حياة بائع بيض مسلوق، وتبتر من عمره زهاء عشرين سنة في الأسر والتيه، فقد اقتيد مع الجماعة لتعويض سجين آخر (لديه وساطات خلصته) لمجرد أنه تصادف وجوده بالميناء حاملا سلة بيضه مع لحظة رحيل فوج الاسرى الدروز، ولمجرد – وهذا ما أظنه حمل الكاتب على الكتابة – أن القدر يحدث أن يضع الاشخاص في مسارات لا يد لهم فيها من قريب ولا بعيد، مسارات لم يخطر لهم قط أن يسيروا فيها، ليس فقط لانهم لا يريدون ان يسلكوها، بل لأنها – في حدود معرفتهم وعيشهم اليومي – غير موجودة، إذ كيف يمكن أن تكون معنيا بما هو غير موجود ولم تسمع به قط .

بالمقابل من ذلك تصور الرواية بشكل بليغ قدرة الانسان الهائلة على التكيف مع أقصى درجات الألم، مدفوعا بغريزة البقاء العجيبة، فحتى في أشد درجات الإنحدار، عندما ينضب الجسم مما يحتاجه ليستمر من ضرورات حيوية، لا يسعه أن ينضب من خيط الأمل الرفيع الواثق المتألق المنبثق من الدواخل السحيقة للنفس البشرية، هذا الأمل الذي يؤمن بوجود احتمال – حتى وإن كان شبه معدوم – للنجاة .

أهم اقتباسات المؤلف:

  • ماتت وأنا صغير أرضع، كنت وحدي معها في البيت وحين رجع ابي وجدني ما أزال أرضع ثديها وهي ميتة.
  • شعر أنه لن يموت في الحبس ويدفن تحت أشجار الزلزلخت مثل كثر سبقوه، ضوء النجوم تسرب من الكوى مثل وعد غامض .
  • الحرية المفاجئة بعد السجن الطويل، رفعت وجوههم، كان العالم موجودا لينظروا إليه .
  • لم يعرف لماذا تراجعت الكوليرا بسرعة كما أتت، لكن في هذه الأثناء لمس الموت النفوس برأس أصبعه وغيرها .
  • طمروه .. وتناثروا خائفين، كان عزيزا عليهم لكنها الكوليرا !
  • القرويون البلغار تقربوا منهم، حتى انهم دفنوا موتاهم في مقبرة واحدة !
  • دفعت الجارية الصحن أقرب إلى الرجل المربوط ليأكل، نظر إلى الجارية الشركسية البيضاء، لم يشكرها لكنه كف عن البكاء .
  • الطباخ عطف عليه .. أعطاه ما يزيد عن حصته خبزته، أبكته هذه الخبزة الزائدة، ذكرته أنه ليس بهيمة .
  • “خذ” ، العينان المقدونيتان نظرتا إليه بمودة حقيقية ، أخذ الخبزة وقطعة الجبن وحبات الزيتون المملح، كانت أشياء من عالم بعيد، غير موجود، خيالي، كان حتى وهو يبلعها لا يصدق انها ممكن الحدوث، لا يصدق أن الجنة يمكن أن تكون قريبة إلى هذا الحد من جهنم.
  •  أداروا وجهه إلى مكة، طمروه بلا حزن. بدوا في نور الصباح خالدين .
  • سمع اللغة الأليفة تسبح صوبه كي يسمعها، لم يبك لأن دموعه جفت على الطريق من آخر الارض إلى هنا .

كلمات دلالية ومصادر :

مقدونيا.
رسالة الشيخ سليمان العيد في الزمن السعيد .
رحلة إلى القدس – جون لويس.
تاريخ الاوبئة : التيفوئيد.
كوسوفو وتاريخ الامبراطورية العثمانية.
Servia and Servian – Williams Danton 1862
The peasant state : an account of Bulgaria – Disey Edward 1894.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى