المثقفون العرب ودورهم في تحديث الفكر العربي

عماد خالد رحمة |  برلين
لم يتوقف المثقفون العرب عن العمل من أجل تجديد الفكر العربي وتطويره على الرغم من حالات الإرتكاس والنكوص التي عانتها أمتنا العربية. فنحن على يقينٍ تام بأنَّ مهمة المثقف كونه من كبار المنتجين للوعي الإنساني وقادر على الإبداع والابتكار،وتقع على عاتقه الكثير من المهام. أن يغيِّر مفاهيم الناس وتصوراتهم لواقعهم، ويغيِّر الذهنيات والمفاهيم في إطار الثقافة المجتمعية، ويحرِّر العقل والفكر من المعيقات والحواجز التي تقيّده .فقد سعى عدد كبير من المثقفين والمفكرين العرب حتى نهاية القرن العشرين الماضي العمل على تحقيق شروط النهضة العربية وإشكالياتها ومتابعة مناهج تحديث وتطوير الفكر العربي. كل تلك الجهود تهدف إلى تجنب المزيد من المشاحنات والصراعات التي تؤدي إلى التشرذم والتفرقة وزعزعة الأمن والاستقرار وجمود التطور للمجتمعات العربية.لذا فإنَّ من مهم المفكرين والمثقفين هو تحليل القضايا والعوامل المؤدية إلى تحقيق النهضة العربية من حيث الاعتماد على الإبداع والحرية ،واحترام القيم والبحث والابتكار، لأنَّ نهضة الأجزاء دون نهضة الكل لا تؤدي إلى المستقبل المنشود الذي يتطلّع له الشعب العربي، وأن التحـوَّل يجـب أن يكـون مستمراً وتدريجياً بتطوير الفكـر ومفاهيـم المجتمـع العربي، مع فهم رسائل تشكِّل جوهرالحياة العربية وهو الدين الذي يسير في سياق تطور المجتمع والتفاعل مع مفاهيمه وتطلعاته.إنَّ الاهتمام بالجانب الموضوعي والتنويري والروحي ضرورة لفكر النهضويين العرب، ودور مؤسسات الفكر والثقافة العربية في تبني الفكر التنويري لحل مشكلة عدم تطبيق مفاهيم النهضة وأفكارها،وافتقاد الآليات لتحقيق ذلك، وكذلك متابعة النهضة العربية عبر تجليات الدولة الحديثة وتطلعاتها ،والرؤى الإصلاحية التي تعالج إشكاليات الهوية بشكلٍ خاص والعولمة بشكلٍ عام.مع العلم أنَّ القوى الدينية السياسية ترى بأنَّ العقل العربي لم يكتف بالنقل والترجمة عن فلاسفة اليونان والحضارة الإغريقية فحسب ، بل صنع لنفسه طريقًا ممهدة ومنهجاً عقلياً يسترشد به، وسبيلًا تحيطه الدراسة والبحث والتأمُّل، جعلاه أهلاً لصياغة فكره الخاص المستقل نوعاً ما، مُستندًا في ذلك إلى مثالية (أفلاطون) أحياناً ،ومنطق (أرسطوطاليس) أحياناً أخرى.
إنَّ جملة ما سبق يحيلنا إلى التساؤل الهام عما إذا كان المثقف العربي يملك سلطة في تجديد الفكر العربي وتطويره.وهل المثقف العربي في وضعٍ يمكنه من أداء مهمته المنوط بها، وهي إعادة بناء الفكر العربي وتطويره وتجديده ؟ مع أنَّ الفكر العربي متنوّع بتياراته القومية واليسارية والليبرالية والإسلامية (إذا جازت لنا تلك التسميات). ونحن في هذا السياق ندرك تماماً أنَّ الدور الفاعل للمثقف العربي قد تراجع بشكلٍ خطير بفعل العديد من العوامل الذاتية والموضوعية من بينها عدم توافر مراكز الأبحاث والتفكير في المجتمع الأهلي العربي، وضعف الحريات نتيجة تغوّل السلطات الحاكمة في حياة المواطنين لصالح حكم السلطان للبلاد وحكم الفرد.والتراجع الكبير بين الثقافة والتنمية. وظهور نخبة عربية مفكرة زائدة، وانتشار أيديولوجيات تفوق استيعاب الواقع، وضعف المأسسة. ترافق ذلك مع غياب الأولويات، وغياب المشروع الثقافي العربي النهضوي على الصعيد القطري والقومي. كل هذا كان مع تعثّر النظم السياسية التي انعكست بشكلٍ سلبي على النتاج الثقافي العربي مما أدّى إلى تبلّد الحس النقدي وتخديره. إلخ…
هذا الواقع الصعب والمرير يدفعنا لأن نرجو ونأمل من المثقف العربي أن يكون الضمر الحي الشقي الذي يرفض هذا الواقع المأساوي ولا يرتاح أبداً ،ولا يرضخ للأمر الواقع، بل يسعى بكل ما يمكن لتفسيره وتغييره ودفع الجميع للمساهمة في هذا التغيير الجذري. لكننا نجد اليوم المثقف قلقاً وحائراً ومتردِّداً. وغالباً ما يكون في حالة ذهولٍ أمام جملة التحولات المتسارعة في واقعه ومن حوله. مع أنَّ الغليان الشعبي كان قد طفح على السطح في العديد من بلداننا العربية،حيث خرج الشباب العربي إلى الشوارع محتجّين على القبح والبطالة والفساد والتنمية المعاقة والبطالة الحقيقية والبطالة المقنّعة، والطائفية والمحاصصة. واستباحة الأمن القومي العربي من دول الخارج .لقد كان من واجب المثقف العربي أن يبث أفكاره وآرائه لهؤلاء الشباب الذين يعتبرون ثروة قومية هائلة ،لهم تطلعاتهم وهمومهم وقضاياهم الخاصة. لأنَّ منهم سيكون العلماء والمبرمجين والمبدعين ليُدخِلوا وطننا العربي في قلب الثورة التكنولوجية الرابعة كمبدعين وليس كمستهلكين فقط.
فإذا أردنا أن نعيد بناء فكرنا العربي وتطويره وتجديده، علينا أن نعرف حقيقة واقعنا وأين نقف، وما الذي نسعى إلى تحقيقه في القيم والمفاهيم والآراء والمنظومات المعرفية، وكيفية الاستجابة للتحديات والوقوف في وجه التيارات المعادية ولجمها، لأنَّ المشهد الفكري الذي يسود واقعنا فيه الكثير من النواقص والسلبيات والهنّات. ومن بينها جمود الخطاب الثفاقي والفكري والعربي في مشاغله ومضمونه، فضلاً عن ضعف دوره كوسيلة وأداة للانتاج النظري، وعدم تمكنه وعجزه عن خلق وبلورة منظومة معرفية متكاملة تتفاعل مع العصر، وتتعامل مع تحولاته المتسارعة .كل ذلك من شأنه أن يولِّد أسئلة محقّة تتعلَّق بقضايا الإنسان العربي المعاصر ، وعلاقته بالمختلف والآخر المغاير.والديمقراطية والمشاركة الفعلية في البناء،والدولة الوطنية والمواطنة المتكافئة المتعاقدة ،والثقافة النقدية الواعية، والنهوض والتغيير، والتجديد الحضاري ،والحكم الحديث والعصري الرشيد.
إنَّ قراءة المشهد العربي بعقلانية ومنطقية ومعرفة دقيقة في ماهيته وتكوينه، تؤكد أنّ ثقافة المراجعات في وطننا العربي مغيَّبة تماماً، كما تم تغييب الاستشراف والتوقع، وذلك لأنَّ ثقافتنا العربية الراهنة لا تملك القدرة على توقع المستقبل واستشراف ملامحه واستحقاقاته، وكل التحليلات التى قدمها مفكرون ومثقفون عرب في العقود الأخيرة لم تستشرف الغد ولم يتوقعون استطالاته وارتداداته. كما تحضر ذهنية (الأنا) المفرطة والمنفعة البدائية الضيقة، والنمو المتزايد في الوعي الفئوي الذاتي، والنزوع الشبق للسلطة وإدارة الحكم والسلطة وشهوة الحكم الفردي. حتى لو تم تدمير الوطن وهُدمت أركانه وأساساته .
من هنا يمكننا فهم حالة المشهد الفكري العربي الذي يتضمن شيئا من الضبابية وعدم الوضوح، والرخاوة فى التعامل مع مواجهة الفساد وقيم النزاهة والصدق والشرف. وتداول السلطة في مؤسسات وأطر العمل الثقافي والنقابي والشعبي والأهلي، والميل القوي للشعارات وتغليبها على غيرها. والموقف الشخصي والخطاب الأيديولوجي المتكلِّس والمتعصب والمنغلق. بدلاً من الخطاب المعرفي العلمي المفتوح.
وفي النتيجة.. يمكننا القول إننا أمام غياب حقيقي لمشروع فكري نهضوي وغياب مشروع حضاري عربي، يتعامل بإبداع مع احتياجات ومتطلبات العصر وتحولاته واستحقاقاته، ويواجه الفساد والتخلف والتسلط والتجمد التراثي ،والتمييز بكل أشكاله، ويملك الرؤية الثاقبة، والإرادة القوية الصلبة والآليات اللازمة. كم نحن بحاجة ماسة لإدارة التنوع والاختلاف فى أبعاده المتنوعة، من رؤى فكرية وثقافية ومعرفية ودينية وسياسية وحقوقية. من هنا وجب علينا العمل على إعادة مراجعة ونقد موروثنا العربي الضخم. بمعنى فهمه فى تاريخيته منذ صيرورته الأولى وعبر سيرورته الطويلة، وشروط مكانه وزمانه ، وإعادة إحيائه من جديد لنتمكن من الإجابة عن بعض معضلات العصر وقضاياه الشائكة، أي قراءة عصرية للتراث في الفكر العربي المعاصر، وتأسيس هذه القراءة على قواعد البحث العقلاني والعلمي والمنطقي، بعيداً عن التوظيف السياسي والأيديولوجي والعقائدي.
فنحن في هذا السياق بحاجة إلى المفكر، بخاصة المفكر الذي يغادر برجه العاجي متجهاً ليخاطب نبض الناس في كل مكان، ويستشرف لهم المستقبل بتفاصيله الممكنة، ويمتلك المنهج العلمي العقلاني في تقديم الخيارات المتاحة، وطرح الأسئلة الاستشكالية التي استعصت على الفهم ، ويُحدِث التأثير الإيجابي الكبير داخل مجتمعه، خاصة على صعيد الفكر العقلاني التنويري ،والفكرالنقدي والمعرفي. لقد غاب هذا الفكر الذي نتطلّع إليه ، أو بالأصح غُيِّب فى العقود الأخيرة نتيجة خلط الأوراق السياسية والاقتصادية والاجتماعية ،ونتيجة التداخلات والتشابكات بين المواطنين من جهة وبين المواطنين والدولة من جهةٍ أخرى ، فترك فراغاً هائلاً في المجتمعات العربية، وعمَّت الظلامية والجهالة، وساد الغلاة والطغاة وحكم الرويبضة البلاد، وحلَّ التخلف الفكري والجهل محل الوعي والتقدّم والتحضّر،على ملئه، فتقطعت الجسور، وكثر اللغو، وحضرت الفوضى.وعمَّت الفتنة وانتشرالفساد والمفسدين في البلاد كالنار في الهشيم، لكننا سنتذكر دائماً سر الحياة وما تضمره لنا ولأجيالنا من بعدنا، فقد سعى الإنسان الأبدي الخلاّق نحو البناء والتعمير، والتجدّد والتغيير والتطوير ، لذا علينا أن نفتح كُوة فى جدار القلق واليأس، ونشعل منارة الفكر والثقافة والمعرفة، وننشغل في التطوير والتحديث والتغيير والتجديد، استعداداً للإسهام بشكلٍ عملي في صنع المستقبل المشرق لهذه الأمة التي نعتز بها

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى