الشخصيات النادرة في رواية عبد الرحمن مجيد الربيعي: السير (وجوه مرت)

أ.د مصطفى لطيف عارف | ناقد وقاص عراقي

لقد تنبه كتاب القصة إلى  خطورة العنوان في البناء الفني, فراحوا يتأنقون في صياغته, واختياره استجابة لوصايا نقادهم, حتى أنهم استهلكوا في صياغته,واختياره ضعف الوقت الذي استهلكوه في كتابة قصصهم, ذلك لأن عملية اختيار العنوان القصصي ليس بالعمل اليسير, تلك التي يكتشف فيها القاص عنوانا لقصته,لأنه في الحقيقة يكتشف عالمه القصصي, وعلى نحو عام أن العنوانات القصصية غالبا ما تلخص فكرة العمل القصصي نفسه أن العنوان القصصي يأتي أما على عبارة لغوية,أو رقما,وربما يأتيان معا,وأخيرا لابد لنا من الإشارة إلى أن كتاب القصة القصيرة يسلكون طريقين في اختيار عنوانات مجاميعهم القصصية هما: الاستعانة بعنوان إحدى القصص لجعلها العنوان الرئيس للمجموعة بأكملها,وهذه القصة أما أن تكون احدث زمنا أو أكثر قصص المجموعة تطورا من الجانب الفني,أو أشهرها ,أو أكثرها ذيوعا,أو أن عنوانها يتسم بعنصر جمالي أو دلالي يؤهله  لأن يكون عنوانا للمجموعة برمتها, والطريق الثاني انصرافهم إلى عنوان آخر ينتزعونه من السياق العام للمجموعة القصصية, وهو ما فعله القاص والروائي الكبير (عبد الرحمن مجيد الربيعي) عند اختياره عنوانات للسيرالغيرية  في روايته  (وجوه مرت بورتريهات عراقية), بقي العنوان,قد يرتبط بالشخصية أو لا يرتبط تماما,فهناك عنوانات بعض القصص باسم أحدى شخصياتها,وقد يكون العنوان لا يحمل اسم شخصية من شخصيات القصة , كما يبين إحجامه عن تقييد القارئ بعنوان ربما يوجه اهتمامه نحو مظهر من القصة دون آخر,اعتقادا منه أن العنوان يمثل جزءا حيويا من بنية النص إلى جانب كونه مفتاحا تأويليا,والعنوان في تركيبته التأويلية ينبئ  عن علم مكتظ من العلامات, والشفرات التي تتحول إلى دوائر تدور حول بعضها مثيرا عددا غير قليل من الدلالات,والبنى الإيحائية, ولهذا حاول الربيعي أن يستعين بذاكرته الحية وان يكتب عن مدينته الناصرية التي كانت لا المدينة الكائنة حاليا معالم الناصرية القديمة وأهلها وقصصها ودروبها الضيقة العتيقة وفراتها الخالد وبساتينها حتى شخصياتها الطريفة المتميزة ما زالت مخزونة في الذاكرة كان الربيعي يسابق الزمن وهو يسجل تاريخ مدينته وحياته وحياة الناس الذين عاش بينهم خائفا من أن تضعف الذاكرة وتتوالى الإحداث وتمر سنين العمر مسرعة فتضيع آثار هذه البلدة الأثرية العريقة وتأتي أجيال أخرى لا يعرفون شيئا عنها وعن تاريخها ونحن نتفق مع الدكتور عبد اللطيف اطيمش فيما ذهب إليه,

ويخبرنا الربيعي في رواية السير (وجوه مرت) عن سبب اختيار هذه الشخصيات من المجتمع العراقي, والتسمية التي أطلقها على الكتاب  فنراه يقول: هذه الوجوه علقت بذاكرتي , حملتها معي إلى كل منأى حللت به أتذكرها دائما وان سهوت عنها بعض الوقت فهناك من يذكرني بها وقد خططت للكتابة عنها ضمن المناخ العراقي الواحد وحافظت على جل الأسماء وها يعني أيضا أنني غيرت البعض الآخر لاعتبارات تتعلق بها, أما الأحداث فقد صغتها بالشكل الذي يجعل مجموع هذه السير ما يشكل رواية عراقية موزعة على مجموعة بورتريهات نادرة التكرار نظرا لفرادتها , وأهم الشخصيات التي تناولها الربيعي في رواية السير (وجوه مرت) هي : (حسين مردان, خيون راشد, كوزان, مدلول يده , حامد جمعة , خالد الحداد , جابر الخطاب , عبد الكريم الفياض, عفون, محسن ريسان) , سوف نتناول  بعض من هذه الشخصيات ونحاول تحليلها, عبر  قاسما مشتركا لها,ووحدانية -القص-  بوصفها كيانات ,تحتسب لصالح- الحكاء- مع تكامل الصور لترسيمها عملا إبداعيا (إنتاج مادي,وروحي), وتطابق مجريات المتغيرات التي تحدث داخل المشاهد التصويرية سواء أكانت فاعلة أم هامشية حقيقة كانت أو مفتعلة,0 إن النص الذي يأسر الربيعي,ويدفعه لخلقه,ورميه إلى ذائقة المتلقي هو النص المتماوج على حدة اللغة,وقسوة الصورة,والإيغال في تشظيات النفس الإنسانية,هذه الركائز الثلاث هي ما يستطيع الوقوف على أثافيها ليخرج باعتقاد أن القاص يحتفظ بخزين وفير من القدرة على السرد,واقتناص الموضوع بيسر,وعرض النص بما قد لا يريح المتلقي,ويترك في نفس القارئ فسحة للابتهاج,نص الربيعي  هو نص الشفرة التي لا تترك ألما بل تصنع جرحا يحتاج القارئ لوقت غير قصير كي يكتشفه ,أن عنوان السيرة الواحدة  للقاص الربيعي  تعطينا دلالات نقدية سيميائية  تدل على مضامين رواية السير (وجوه مرت), ومن خلال استنطاق قصة السيرة الغيرية (حامد جمعة وقصائده الموزونة المقفاة) نجد النص  الذي يريده القاص الربيعي  محمولا بالدلالات, لابد أن يأتي مستلا من تفاصيل سلوكيات اجتماعية ارتأى  إحضارها من أزمنة مختلفة في العلائق, ومتفاوتة في التشابكات,فهو يستعين بالشخصيات الأدبية  استحضارا للسرقة ,ويتكئ على شخوص الحاضر معطيا إياها دور الباحث المتفاعل الذي سيخرج بحصيلة تتكرس مدلولات تسهم في فائدة البشرية في التعامل,والحكم, إنه يمنح المتلقي أبوابا متعددة مواربة للقراءة, والتأويل اعتمادا على كون النص كرة كريستالية تبث الدلالات التي تستنهض رؤى المتلقي فتثير فيه مهمة البحث عن الشفرات, فهو يستعين بحامد جمعة  في نصه من يوم أخذه للنصوص الشعرية مقابل السكن في الفندق لليلة واحدة, والذي يتعادل موضوعيا, مع الذي يسرق جهود الآخرين أي – فيروح يستطرد بكلام يفضح جمعة حامد ,وهو الذي  أرادت نفسه أن تبوح فنراه يقول :وعندما علم بعض الشعراء المشردين بان لجليسهم الأنيق حامد جمعة فندقا لا يبعد عن مقهى عارف أغا إلا بضعة أمتار هي عرض شارع الرشيد صاروا يقصدونه في آخر الليل وهم سكارى متوسلين أن يسمح لهم بالنوم بدلا من الأرصفة وغرف الحيدرخانة العفنة المكتظة بالبشر ويبدو انه لم يمانع في هذا شريطة أن يقدم له من يريد النوم قصيدة ثمنا لنومه وهذا ما سمعناه لا حقا عنه كان حذرا من هكذا عرض لذا يكتب الشاعر إقرارا ويوقعه بأنه لن ينشر هذه القصيدة باسمه أو يدرجها في احد دواوينه أو يتحدث عنها, وهذا تجمع لديه ديوان كبير الحجم أسرع في طبعه دون أن يتحدث عنه ولكنه فاجأنا وهو يحمل عدة نسخ منه ليقدمها هدية لكل الأدباء والصحفيين لقد طبع الديوان طباعة أنيقة وسماه (ديوان جمعة حامد) [1]0 ولا يختلف اثنان على أهمية الشخصية بوصفها العنصر السردي الأكثر أهمية في العمل القصصي بكل أشكاله, وأنماطه, ولاسيما في القص السيكولوجي الذي تستقطب فيه الشخصية الأضواء, والاهتمام كله على حساب العناصر السردية الأخرى  ذلك لأن العمل القصصي هو عبارة عن الأعمال التي تقوم بها تلك الشخصية, وان النص  الذي يصور الأحداث من دون فاعلها هو اقرب إلى كينونة الخبر منه إلى كينونة الرواية, وعلى الرغم من أيمان أغلب النقاد بمكانة هذا العنصر في البناء السردي , إلا أنهم اختلفوا حول ماهيته وطريقة النظر إليه, وأهميته ,أما النقاد والروائيون الواقعيون فقد أولوا هذا العنصر السردي اهتماما بالغا لافتا للنظر , إلى حد اعتقدوا معه أن وظيفة عناصر السرد كلها هي إضاءة هذا العنصر ,والكشف عنه في العمل السردي , استطاع الروائي الكبير الربيعي من  تسليط الضوء على ابرز شخصية من شخصياته الرئيسة في رواية السير (وجوه مرت), وهي شخصية (حسين مردان)  التي تبحث عن ذاتها, وتسير في القصة  كلها, فنراه يقول: حملت قصائده جرأة اجتماعية وانقلابا على المتعارف وستقوده لاحقا إلى المحكمة ليكون أول شاعر عراقي يحاكم لا لموقفه السياسي بل لاعتدائه على المحرمات الاجتماعية ولإساءته إلى الأخلاق العامة هكذا [2], وأما النقد المعاصر ينظر إلى الشخصية بوصفها كائنا مصنوعا باللغة من صنع خيال المؤلف, لا وجود واقعي له خارج النص الأدبي, لان الأدب لا يوجد شيء خارج اللغة, وعليه فالشخصية في السرد- كما يرى تودوروف- هي قضية لسانية لا وجود لها خارج الكلمات , ومهما كانت درجة مطابقتها للواقع, فهي لا تعدو- كما يرى بارت- أن تكون كائنا من ورق [3], ونحن نختلف مع الآراء السابقة, ونقول أن شخصية (حسين مردان)  في رواية السير (وجوه مرت)  شخصية حقيقة, وواقعية, وهي تعبر عن وجهة نظر الراوي العليم, فمن خلالها عالج الروائي الكثير من القضايا الاجتماعية والسياسية  المهمة, وجمعت بين الماضي والحاضر من خلال المكان الأليف مدينة بغداد عاش أجمل لحظاته القديمة, واعتمد على ذاكرته في استرجاع الإحداث فنراه يقول : في سنوات تشرده البغدادي كان يقضي ساعات الظهيرة الصيفية في بار السولاف المبرد وهو من أشهر البارات الشعبية في مدخل شارع أبي نواس وكانت له مادته المنزوية فيه وهي بمثابة مكتبه حيث يلذ له أن يسكر ويقتل لفحة العرق بالمازة العراقية الشهيرة الجاجيك التي لا تعادلها مازة عند السكيرين المحترفين [4].

المراجع

[1] رواية وجوه مرت : عبد الرحمن مجيد الربيعي :59.

[2] وجوه مرت :18.

[3] ينظر بنية الشكل الروائي : 212.

[4] وجوه مرت :22.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى