النخب السياسية العربية وإشكالياتها ونقائضها

بقلم: عماد خالد رحمة | برلين

    لم تخلُ الأمم من نقائض عبر تاريخها الطويل مما جعلها تعاني الكثير من المآسي التي ما تزال تعتمل في دواخلها وأعماقها، وأنَّ ما تعانيه اليوم هو الاستمرار المتواصل والمتلازم لما فيها من نقائض ومشاكل وهموم وقضايا شائكة. وبما أنَّ النتائج تكون دائماً محكومة بأسبابها فإنها ترقى إلى مرتبة الحتمية، وفيه تتبدى حقيقة وجوهر القدر وإمكانية وجود البدائل للخروج من سيطرته وحباله.

     فالقدر هو الوجه الآخر للقدرة الكامنة والظاهرة. وعلى قدرها تتراكم وتتزاحم حقيقة ما نطلق عليه بالمصير في عقل وضمير النخب الاجتماعية والفكرية والثقافية والسياسية. كما إنه يتكوم ويتراكم في مواقف المجتمعات والأمم بأشكال متعدّدة،ومستويات شتى من الذل والخضوع، والخنوع لكل ما يجري حتى المواجهة، والتحدي،والاستعداد للتضحية بالغالي والنفيس من أجل ما يرتقي في عقلها وضميرها إلى مصاف الطاهر المقدس، أي كل ما يرتقي في وعيها وعقلها وضميرها إلى مستوى المجرد عن السخف والابتذال.

    وفيما بين هاتين الحالتين، أي الخنوع والذل وقبول الهوان حد العبودية السافرة والتوكل الزائف على قيم أكثر وهمَاً وزيفا، والاستعداد الدائم للتصدى والمواجهة والتحدي بشكلٍ مباشر وغير مباشر مهما كانت الظروف والأحوال والقوى الخارجية، تكمن قيمة النخب الفاعلة والأمم على حدٍ سواء.

    وهي حقيقة سبق وإن سجلتها أفكار البشر عبر مسيرتها التاريخية وثبتها الفكر الإسلامي والقومي في سجلاته ومنهجه عبارة مأثورة تقول: (الناس على دين ملوكهم)، والتي يمكن تأويلها وتفسيرها في ظروفنا المعاصرة التي نعيشها بكامل تفاصيلها على أن الأمم على دين نخبها الفكرية بشكلٍ عام،ونخبها السياسية بشكل خاص.

      وذلك للدور الكبير الذي تلعبه النخب السياسية المدعومة من المؤسسات الأمنية والعسكرية في حياة المجتمع.هذه الحقيقة تدفع باتجاه تحقيق مهمة صياغة ما يمكن تسميته بفلسفة النخبة السياسية، كونها إحدى القضايا الهامة والجوهرية في ميدان الفكر وإعمال العقل والممارسة السياسية العربية.

         وذلك لما للنخب السياسية من دور هام وحاسم في الفصل بين الإشكاليات التي تواجهها الأمة والدولة ومؤسساتها وإداراتها، فعندما يرفع الشعب شعاراً تعيساً بائساً،فإنَّ ذلك مؤشر واضح على تعاسته وبؤسه المادي والروحي،وعندما يكشف الشعب عن بؤسه الروحي والمادي فإنَّ ذلك دليل واضح وصريح على بؤس تعاسة النخبة الفكرية والثقافية والسياسية.

      ولعلَّ أحد المصادر الرئيسية لبؤس وتعاسة النخبة في ظروف بلداننا العربية ما بعد التوتاليتارية الملكية والرئاسية والتوريث الذي يقوم في آلية إدارة السلطة والحكم المتكلسة والتي تعاني من الجمود العقائدي، وهكذا يمكننا رؤية النخب السياسية من خلال منهجها وسلوكها السياسي والاجتماعي والاقتصادي وهي آلية لا يمكنها إبداع رؤية وطنية خاصة أو قومية عامة.

     بينما تشكل الرؤية الوطنية الخاصة والمنحصرة داخل كل قطر من أقطار الوطن العربي نجد أنّ تلك الرؤية تقع في صلب المضمون الفعلي للنخبة السياسية زمن الانقلابات العسكرية الحادة،والإنقلابات السياسية المغلّفة بالقوى الأمنية،كما تقع في صلب الإشكاليات الكبرى التي تواجه الدولة والأمة وحتى الدويلات والإمارات المتوزعة على بقعة جغرافية عربية.وذلك لما في هذه الرؤية العامة من توافق وانسجام واستجابة لمستوى ونوعية وحجم التحديات المطروحة.
الجدير بالذكر أنّ القضايا الكبرى والمشكلات النوعية التي تواجهها الدولة والأمة زمن الانقلابات الكبرى وزمن التحوّل السياسي والعسكري والأمني هي قضايا تخص الجميع. بمعنى أن المشاكل والقضايا الكبرى القائمة مهما تبدو في الظاهر منفردة أو معزولة أو جزئية وليست كلية، فأنها في الحقيقة مجرَّد عيِّنة لمشاكل عامة أكبر وأخطر ومترابطة وكلية. وتعكس هذه الحالة الطبيعية في الوقت نفسه ترابط الأشياء والظواهر بمفاصل هامة، إلا أنَّ ما تتمتع به من خصوصية زمن الانقلابات العسكرية والسياسية الكبرى تقوم في قدرتها على إثارة سلسلة متواصلة من التداعيات والاستحقاقات لا يمكن ترتيب الأوليات فيها أبداً.

      وذلك لأن الانقلابات العسكرية والسياسية الكبرى والعاصفة في كثير من الأحيان تجعل من الممكن ظهور وصعود مختلف الظواهر الراديكالية واللاعقلانية والمتسمة والتي يتسم بعضها بالإرهاب. وذلك بسبب حالة الضعف والوهن وشكل الخلخلة الهائلة في بنية العلاقات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية،مع ما يترتب على ذلك من فقدان البوصلة،ومن ضياع أيديولوجي وقلق معنوي وروحي.

     وهي مكونات إشكالية ومتناقضة من حيث تأثيرها الكبير على السلوك السياسي العربي. فبالقدر الذي يمكنها أن تكون قيمة كبرى ومقدمة لبدائل عقلانية ومنطقية من خلال شحذ فكرة الحرية والحقوق الإنسانية النابعة من قوانين وتشريعات ناظمة، فإنها تحتوي بالقدر نفسه على مختلف الاحتمالات والرغائب غير العقلانية والدموية التدميرية. وهما احتمالان إثنان يحددهما وجود أو غياب الرؤية الوطنية النقية الصافية العامة في فكر وعقل وممارسة النخب السياسية العربية.
وعندما نعمل على تبيطق هذا المدخل الأولي بشكلٍ عام على واقع العديد من بلداننا العربية التي تعيش أزمات ومشكلات حادة في وقتنا الحالي والتي ما تزال تمثل نموذجاً كلاسيكياً واستاتيكياً لحالة الانتقال الحادّة والعاصفة جداً في تاريخ الأمة والدولة، فإننا نقف اليوم أمام الاحتمالين الرئيسيين المذكورين أعلاه.

      ونقصد هنا وجود إمكانية بناء أسس الدولة القانونية والحقوق المدنية أو الانكفاء صوب مختلف أشكال الصراع غير العقلاني مثل حرب أو حروب قومية أو حروب بين بعض الدول العربية مع بعضها البعض كما يمكن الإنكفاء صوب الصراعات الجهوية والطائفية وغيرها.
وعندما نعمل العقل ونتابع قراءة وفحص العينات المنتشرة والمتناثرة في مختلف مظاهر وأشكال الصراعات الحالية التي لم تهدأ بعد وهذا برهان أكيد على أنَّ النخب السياسية الجديدة لم تتطور وترتقِ بعد إلى مستوى الرؤية الوطنية ومصافها بعد مرور العديد من السنوات العجاف على تغيير العديد من القوى السياسية التوتاليتارية والدكتاتورية العربية.

       بمعنى آخر. وهذا دليل واضح على أنّ أغلبها ما يزال محكوماً برؤيته ونمط تفكيره وسلوكاته الحياتية العملية بآلية النفسية العقيدية والعقائدية المرتبطة بأيديولوجيا خاصة ونظام شمولي. وهي في النهاية ليست رؤية عقلانية أو منطقية،كما أنها لم تصل إلى مستوى الرؤية الوطنية العامة. وهو أمر واضح وضوح الشمس أيضا عندما نحلل نوعية ومستوى خطاب تلك النخب والمطالب العديدة المتناثرة في برامجها الانتخابية التي ينشروها على امتداد الجغرافية العربية وبالأخص ما يتعلق منه بالموقف من النظام السياسي الشمولي وشكل الحكم، أي بالسلطة الحاكمة.

    فقد كانت تلك السنوات وما تزال محكومة بالصراع البنيوي من اجل السلطة والوصول إلى سدة الحكم فقط.من هذا المساق نجدها تتخبط يمنةً ويسرةً وتضيع مفاتيح وأسس تشكيل الحكومات التي تنساق بشكلٍ رعوي باتجاه كيفية إخضاعها للمصالح الحزبية والفئية وكيفية إخضاعها للمصالح الحزبية والجهوية والقبائلية والعشائرية والشخصية الضيقة.

      مما يشير بدوره إلى وهن وضعف أو انعدام الرؤية الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والوطنية والمستقبلية.وقد تسعى بشكلٍ حثيث نحو المؤامرات العلنية والسرية، واستعداد معظمها للمتاجرة والخضوع المذل للقوى الأجنبية الماكرة،وعقد الاتفاقات السياسية والأمنية من خارج الحدود الأخلاقية الوطنية والقومية وخارج الدستور والقوانين الناظمة للدولة،والالتفاف والمخادعة عليه،وما شابه ذلك مجرد مجوعة مظاهر لآلية تقسيم ثروات الوطن واعتبارها غنيمة وذلك من خلال المحاصصة والشراكة والوفاق وما شابه ذلك من صيغ عقيمة ومغلقة ولا وطنية،كشفت عن حدودها الضيقة وتخريبها للدولة والنظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي والمستقبل. وهذا ما نطلق عليه الخيانة الوطنية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى